قلّما ينتبه القارئ العربيّ إلى ما انعقد بين الضّاد واللاتينيّة من العلاقات الوثيقة، على مدار التاريخ، بِحكم أنّها اليوم لُغة ميّتة، تَناءت عن مشاغله المُعاصرة، ولا تُتقنها إلّا قلةٌ من أهل الاختصاص. ومع ذلك، فالبحث في مضمون هذه العلاقات، من زاوية التاريخ الثقافيّ للمَعاجم، كفيلٌ بأن يكشف لنا دقائقَ مفيدة ويُعين على فهم عوامل تطوّر العربيّة وتحوّلات معانيها وحتّى تولّدِ بعض الكَلمات في مُتونها بعد أن لم تَكنْ. حيث كانت اللاتينية، طيلة العصور الوسطى، لغةَ الثقافة العالِمة وقناةَ التواصل الرسميّة، فَضلاً عن كونها أداةَ تبادل الإمبراطوريّة الرومانيّة، في عزّ ازدهارها، مع ما أحاط بها من الدول. فهي التي تواصلت معها حضارة الإسلام منذ ظهورها إلى مرحلة الحروب الصليبيّة، ممّا يجعل العلاقات بين هذيْن اللسانَيْن مثل أكَمَةٍ، وراءَها ما وراءَها من الأسرار والمفاجآت.
ولنكتف هنا باستعراض ما جرى بينهما من التناظر عبر المَعاجم المزدوجة. فأوّل ما أُلّفَ، في هذا المضمار، مُعجم فرنسيسكيوس رافلنجيوس (Franciscus Raphelengius ــ عاش بيني عامي 1539 و1597)، مدرّس العبريّة في “جامعة لايدن” في هولندا، وقد سخّر عشرين سنةً لإتقان العربية، من 1570 حتى 1590، إلى جانب إتقانه العبرية والسريانية والإغريقية وبراعته فيها. وقد أثبتَ كلَّ مقابِلات اللاتينيّة للكلمات الفصحى التي تضمّنتها النصوص الأدبيّة، ليُطبَع عمله هذا بعد وفاته، سنة 1613.
وقام بَعد ذلك المستشرق الهولندي جاكوب غوليوس (Jacob Golius ــ عاش بين عامي 1596 و1667) ــ والذي كان رياضيّاً أيضاً ــ باستيعاب عمل سابِقِه المُؤَلَّف من 550 صفحة وتنقيحه وإضافة موادَّ جديدة لمُعجمه العربيّ – اللاتينيّ، بالاعتماد على كتاب “الصّحاح” للجوهريّ (ت. 1003) و”القاموس المحيط” للفيروزآباديّ (1342 – 1401). فلم يَكن معجمُه هذا مجرَّد ترجمة ونقل، بل كان تلخيصاً وتهذيباً وتحقيقاً لِما في معاجمنا من موادّ لغويّة. ولعلَّ هذا العمل هو ما أضفى على التعريفات طابع الوضوح والاختصار والانتظام، بدلاً من تناثرها إلى ما لا نهاية لها، كما نلاحظه في المعجمات الكلاسيكيّة.
العلاقة بين اللغتين تُخفي وراءها أسراراً ومفاجآت
وقد تلقّى جوليوس تعليمَه على يد العالم إيبرنيوس (Erpenius، وقد عاش بين سنتَيْ 1584 و1624)، الذي سَبَق له أن طَبَع، ولأوّل مَرة، كتابَ عبد القاهر الجرجاني، “العوامل المِئة”، سنة 1617. ثم دعّم تمرّسَه بالعربيّة في المغرب الأقصى، من خلال سفارة هولندية هناك على ضفاف المتوسّط الشرقية، من 1626 حتّى 1629، حيث جَمَعَ المخطوطات العربية من ديارنا، ونقلها (سَرقها؟) إلى المكتبة الجامعيّة في لايدن. وظل بقية حياته يدرس الرياضيات واللغة العربية.
وتجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أنّه كان أستاذَ الفيلسوف الفرنسي ديكارت في علوم الرّياضيّات، ومن الرّاجح جدّاً أنه، خلال مراسلتهما، دَرَّسَه العربيّة وشيئاً من فلسفتها. ويقع مُعجَمُه هذا في 1500 صفحة، وطُبعَ سنة 1659، وكان في الأصل تحسيناً وتعميقا لمعجم فرنسيسكيوس رافلنجيوس. وبما أنّه كان يتوفّر على مخطوطاتٍ من المعاجم العربية، لم يَرَها سلَفُه، فقد تمكّن من إثراء معجمه، وسريعاً ما صار المرجعَ الرَّئيسَ في الدراسات اللاتينية.
ومن أهم العُلماء الذين اهتمّوا بصياغة مُعجم مُزدَوج، عربي – لاتيني، المستشرق الألماني جورج فيلهلم فرايتاغ (Georg Wilhelm Freytag، وُلد عام 1788 وتوفيّ عام 1861). كانت قصّتُه لافتةً: إذ كان الرّجل يشغل وظيفة راهبٍ لدى العسكر البروسي، وشارك بحكم هذه الرتبة في حملات 1813 و1815 ضدّ فرنسا، وصاحبَ الجيشَ إليها، فاستَقَرَّ لسنواتٍ في باريس وتفرّغ لدراسة اللغات الشرقيّة، التي كانت مزدهرةً آنذاك، حتى برَّزَ في إتقان العربية الكلاسيكية، ثمّ عاد إلى بلده سنة 1818، أي بعدَ ست سنوات، ليدرّسَ العربية في “جامعة بونّ”.
استفاد معجميّون عرب معاصرون من اشتغالات اللاتينيين
كان جُلّ آثار هذا العالم مكتوباً باللاتينية، ومنه: “أغنية عربية” (1814)، و”مختارات من تاريخ حلب” (1819)، إضافة إلى ترجمته “ديوان الحماسة” في جزأين (1828 و1852). إلّا أنَّ عمله الأكبر، بلا منازع، هو المعجم العربي – اللاتيني Lexicon Arabico Latinum، المُرفَق بملحق لاتيني – عربي، والصادر في أربعة أجزاء بين سنتي 1830 و1837، وقد أعيدَ إصداره في طبعة مُختصرة سنة 1837.
ولسائلٍ أن يسأل عن جدوى الاهتمام اليوم بهذه اللغة المَيّتة؟ تُعَلّل العودة إلى مثل هذه الأعمال المختصّة بالرغبة في الوقوف على طورٍ من أطوار اللغة العربيّة، وعلى التحقّق من معانيها في مرحلة من مراحل تحديثها. كما تُعِيْن هذه العودة على التحقّق من تلك المعاني عبر آلية الترجمة وإيجاد المقابلات، حيث أدّت التّرجمة دوراً تفسيريّاً توضيحيّاً للمعاني. ومن جهة ثانية، تمكّن من الوقوف على بعض الكلمات المقتَرَضَة من اللاتينية إلى العربية، وهي عديدة ولكنّها مجهولة لعمق التحوّلات الصوتيّة والدلاليّة والصَّرفيّة التي طرأت عليها. ويكفي أن نلاحظ، في هذا الصدد، مفرداتٍ شائعة لدينا اليوم مع أنّ أصولها أجنبيّة مثل: “قانون” المقترَضَة من Canon، و”جِنس” من Genus، و”أخطبوط” من Octopus، فضلاً عن أنَّ العدد الكبير من أسماء الأمراض والأدوية التي ذكَرها العلماء، وأسهم الأب أنستناس الكرملي في معجمه “المساعد” في تثبيت عدد كبيرٍ منها، تنحدر من هذه اللغة. ولا ننسى أنّ اللاتينيّة كانت لغة الكتابة العالِمة في أوروبا حتّى النصف الأول من القرن التاسع عشر، والعديد من الدراسات الألسنيّة إنما تعتمد المقولات اللاتينيّة في مقاربة النحو والصرف العربيَيّن، ممّا يجعل إتقانها ضروريّاً لفهم أعمال المستشرقين، وحتّى المُحدَثين منهم. فكُتُب سيلفستر دو ساسي، صديق الطهطاوي وأستاذه، وريجيس بلاشير، وحتى بيير لارشيه، مُعاصِرنا، إنما تنهل من المصطلحات العلمية اللاتينية مثل: Nominatif، وAccusatif ، وكذلك Génitif، في توصيف حركات الإعراب الثلاث من الضمّ والفتح والخفض.
ومن بَين مَن استفاد من تراكم هذه المعاجم الثلاثة المترجمُ المصريّ إلياس بقطر (1784 – 1821)، الذي صَرّح في مقدّمة “معجمه” أنّه اعتَمد منهجيّتها العلميّة من حيث تصنيف الكلمات المستخدمة وتعيين وحداتها وطبائع مفرداتها. وكذلك المستشرق البولندي كازيميريسكي (1780 – 1865)، الذي استفاد هو الآخر منها ولكن من دون أن يذكرَ ذلكَ، حتى أنَّ بعض الباحثين الشبّان، مثل عبد الحميد دريرة، يذهب إلى أنَّ عَمَله المعجمي الكبير إنما هو مجرد تَرجمة لمعجم فرايتاغ. إلّا أنَّ هذه الأطروحة، على وجاهتها وأصالَتها، تَحتاج إلى مزيد من البرهنة والتدليل.
والحقّ أنّ تحرير المعاجم المعاصرة استفاد من المناهج التحريرية التي تطوّرت في أوروبا باللغة اللاتينية أوّلاً، ثم في سائر لغاتها الأخرى، ولاسيّما الإنكليزية والفرنسية. وتأثّر بتلك المناهج كتّابٌ عربٌ مثل بطرس البستاني وجرجي زيدان. وهكذا، فالعَوْد إلى هذا اللون من التراث الأجنبي اللصيق بالضاد إنّما هو في الحقيقة استكشافٌ للعلاقات الحِواريّة التي انعقدت بينها وبين سائر اللغات، وما انفتح خلالها من الاقتراض والتثاقف والتواصل. وهذا كفيلٌ بأن يفتح، في درس تاريخ الضاد، أبواباً لم تكن تخطر لنا على البال. ومن الضروري إدماج هذه الوقائع في الجهود المعجية العربية المعاصرة، مثل “معجم الدوحة التاريخي”.