القرآن معزولاً عن المصادر الإسلامية: اختلال المناهج وتهافُت المقاربات

يوليو 10, 2022 | نجم الدين خلف الله

تطوّرت، خلال العَقديْن الأخيرَيْن، الدّراساتُ القرآنيّة بشكل لافتٍ، حتى لم يَعُد يمرّ  أسبوع، في الغَرب، من دون إصدارٍ جديد عن أقدسِ كتُب المسلمين. ويمكن اليوم تلخيص المُقاربات السّائدة عن تشكّل النّصّ القرآني، في هذه الخطابات الأوروبيّة والأمريكيّة، إلى مساريْن متقابليْن، مع أنهم يجتمعان في اعتباره نَصًّا غيرَ متعال، أيْ إنّه من “وَضع” البشر، وهم الذين ألّفوه في حقبةٍ لاحقة عن الفترة المُفترَضَة لنزوله وإيحائه، كما أنه قد “حُرِّر” لأغراض سياسيّة تَرتبط بحاجة الدّولة الأمويّة، ذات المادّة العربيّة، إلى مرجعٍ ثابتٍ مقدّسٍ.

تعتَبر المقاربَة الأولى أنّ القرآن يَمْتَح كليًّا من مَصادر سِريانيّة-مسيحيّة، اعتمدها “مُحرّرون” من هذه الدّيانة، كانوا يعيشون في الشّام، وهم الذين قاموا بتضمين كلّ الموضوعات ذات الطّابع الإنجيليّ من قِصَص الأنبياء وأخبارهم والأخلاق والحياة الآخرة ونهاية العالم… ومئاتٍ من الثّيمات الأخرى، حيث نلاحظ تشابهًا كبيرًا بينها وبين صياغاتها القرآنيّة، مثل قصّة نوحٍ ويوسف ومبادئ المحبّة والتوبة… وتستند هذه المقاربة على التّماثل الكبير بين بعض مُفردات القرآن واللغة السّريانيّة والعبريّة القديمة، وهو تماثل استُغِلّ في التدليل على أنّ “محرّري” القرآن اقترضوا تلك الثيمات، كما اقترضوا أساليب التعبير عنها.

ويقودُ هذه المقاربة مجموعة من الباحثين، منهم أولئك الذين أنجزوا كتابَ “قرآن المؤرّخين” (2020) ولاسيما غيوم دي ( 1974)، باحث فرنسيّ يشتغل في بلجيكيا، ومحمد عليّ أمير- مُعزِّي (1956-…)، جامعيّ فرنسيّ من أصول إيرانيّة، وهما يواصلان نَشرَ الأطروحات التقليديّة التي سادت في أوساط المستشرقين، مثل بول كازانوفا (1911). ويقوم منهجهم على إثبات التواصل بين الأصول النّصّية المسيحيّة والتعبير القرآني وإثبات أنّ هذا الأخير قد اقتَرض، ربما في تلطيفٍ لكلمة: “سرق”، الأفكار من الرّصيد الدّينيّ الذي كانَ مُتوافرًا لدى المِلَل والنِّحل التي عاشت في قلب الدّولة الأمويّة. وربما جرى تحريف أو “تكييف” لتلك الموضوعات المُقتَبَسة حتى تتلاءم مع روح الدّيانَة الإسلامية، ضمن عمليات التناصّ والاقتباس والتحوير والتحاور التي تجري بين كُبريات النّصوص الأدبيّة والأسطوريّة والإنسانيّة، وهي مسارات تفاعل دَرستها مناهج النّقد الأدبي الحَديثة. وهذا ما يفسِّر حصول بعض الاختلافات الحاصلة بين الأصول والفروع، والتي قد تؤكّدُ هذه النظريّة.

وأما المقاربة الثانية فتُرجع النصّ القرآنيّ إلى مصادر داخليّة، منبثقة من البيئة البدويّة العربيّة، ومما كان سائدًا فيها من المقولات والعقائد وخاصةً من طُرق التعبير وأنماط التمثيل والتفكير، وقد ازدهرت هذه النظريّة في أعمال الباحثة الفرنسية جاكلين الشابّي ( 1943-…) والتي خصّصت لها خمسةَ كتب كاملة، فيها الكثير من التكرار، لكنّها أثبت، من خلال عشرات الأمثلة المُحللة، انبثاقَ المقولات القرآنيّة الرّئيسَة، مثل: الإيمان والأمّة والألوهيّة والخلود وغيرها، من أصولٍ بَدويّة –قَبَليَّة، وثيقة الصلة بالمناخ الصحراويّ الطبيعيّ الذي حَكَم التصوّرات والعبارات العربيّة وشكّل مفاهيمها العامّة. ولذلك، لا يفهم هذا النص إلا بالعَودَة إلى هذه المؤثّرات البدويّة وتحليلها. وتربط هذه المقاربة “تحرير” القرآن بكَتَبَةٍ عَرَب كانوا يعملون تحت إملاء الدّولة الأمويّة !!

وهكذا، تهدف هاتان المُقاربان إلى نزع كلّ قداسة وتعالٍ عن النصّ القرآني واعتباره مجرّد “نتاج بشريّ”، يستجيبُ لبيئتهِ التاريخيّة، ومن ثمّةَ التشريع لنقد المقولات الواردة فيه وربطها بما سَبقها وعاصَرَها من المبادئ، وطُرُق البرهنة عليها وأشكال التعبير عنْها. كما أنهما تجتمعان على إقصاء ما جاءَ في النّصوص التراثيّة، من تفسير وعلوم قرآن وتاريخ وسيرة واعتبارها جميعًا نصوصًا تمجيديّة بَعديّة، لا يمكن الوثوق بها ولا الاعتماد عليها في إعادة كتابة تاريخ تشكل هذا النصّ، وذلكَ بسبب اضْطراباتها وتناقضاتها التي لا تنتهي، حسب رأيهم، ثم بسبب صَمْتها عن الكثير من المسائل الجوهريّة أو إخفائها بعض الوقائع وتَزييفها.

وهناك مَن يُضيف إلى هاتيْن المقاربتَيْن ضرورة الاعتماد فقط على المصادر المنقوشة والمَحفورة في الصّخور والأحجار، المتناثرة في شبه الجزيرة العربيّة والشّام والعراق، واعتماد ما ورد في هذه “الشواهد”، وما لم يَرد، كأدلّة قاطعة على حضور ثيمةٍ ما أو غيابها،  وهو ما سُمّيَ بـــ “قرآن الأحجار”، وإليها تنتمي أعمال الجامعيّ الفرنسيّ فريدريك إمبار (1963-…). إلا أنّ ما تم اكتشافُهُ من حفريّات بعد عمليّات التحقيب، وجلّه افتراضيّ ونَظريّ، لا يوفّر سوى قدر ضئيل من المعلومات، لا تغيّر ما هو معلومٌ ولا تنيره، بل غالبًا ما تَدعمه، وتسير في الاتّجاه الذي سارت عليه كتبُ التّراث الإسلامي. ثم لماذا إيلاء كلّ هذه المصداقية المبالغ فيها إلى الأحجار والتحجيم من مصداقية التراث المكتوب والشفويّ، علمًا وأنّ الشكّ الذي يطاوِل الأوراق يمكن أن ينطبقَ على الحفريّات والأحجار المنقوشة والأخشاب؟

وقد صارت المُعادَلة – لدى هذه المقاربات- أنّه لا ينبغي الاعتماد على أيّة رواية تاريخيّة إسلاميّة تقليديّة ما لم يكن هناك داعٍ، ولو ضعيفٌ، لقَبولها، أيْ: ما دامت الفرضيّات الفكريّة قادرة على تفسير الظاهرة المدروسة وتعليلها دون اللجوء إلى مصادرنا الإسلاميّة، لأنها مَحلّ شَكٍّ. وإن كان ولا بد من العودة إليها، فبعد نقد شاملٍ وآلي، وفي أحسن الأحوال، يُتعامل معها بنفس شديد الانتقاد Hypercritique  فلا يُؤخَذ منها سوى الفكرة العامّة التي تشير إليها، دون التفاصيل الدقيقة، فضلاً عن انتقاد نَفَسها التمجيديّ.

إلا أنّ هذه المقارباتِ جميعَها لم تقدّم إلى اليوم أيّة إجابة واضحة ودقيقة عن “مُحرّر”،  أو “مُحرّري” القرآن، المزعومين وظلّت صامتةً عن زَمَن التّحرير الدّقيق وعن إطاره أكان رسميًّا أم فرديًّا. كما أنها لا توضح هويّة “الآمِر”، أي: الخَليفة أو العالِم الذي اتّخذَ هذا القَرار التاريخيّ لاجتراح هذا المرجع الجماعي، القرآن، والذي سيكون بالنسبة إلى العرب الفاتحين ما كانت المراجع المقدّسَة، كالإنجيل، للإمبراطوريّات الأخرى. ومن جهة ثانية، تَصمت المقاربة السّريانيّة عن بعض المواقف الرافضة التي وقفها الإسلام ضدّ المسيحيّة المُحَرَّفة، من وجهة نَظَره، ولا سيما عقيدة التثليث وصَلب المسيح وتأليهه، فكيف يعقل أن يكتبَ هؤلاء المحرّرون، المُفتَرَض أن يكونوا مسيحيين سريانَ، مقولاتٍ وعقائد تَتَعارض مع عقائدهم وتؤيّد حربَ الإسلام ضدّ انحراف المسيحية؟ بلْ وتوفّر أدلة على تهافتها، ولا أدري كيف تغيب هذه النقطة على أصحاب هذا الرأي الضعيف.

القول بأنّ مُحرّرَ القرآن قد جَمَع أشتاتَ التّراث اليهوديّ والمسيحيّ واستعاد لحسابِه الخاص قِصص الأنبياء السابقين وسائر الموضوعات المتأتّيَة من أنحاء جغرافيّة متباعدة والمحيلة على أحداثٍ وشخصيّاتٍ ومفاهيم متباينة في انتماءاتها وعالميّةٍ في مراجعها، لهو دَليلٌ على “عبقريّةٍ ما ” في الجَمع والصّياغة والتعبير والاصْطِراف، استفادةً من سائر مدارات التناص، وهي عين “العبقرية” التي يُضفيها المسلمون على رسولهم الذي نَزَل عليه “الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ”.

اللغة العربية: لسان واحد ومجامع شتّى

مُفارقةٌ حقيقية تلك التي تتقابل فيها وَحدة اللغة العربية من جهةٍ، وتعدد المجامع المشرفة عليها من جهةٍ ثانية. ففي الوقت الذي يعمل فيه العلماء والنحاة، ومنذ...

العربية: ما الذي بقيَ أن نفعلَه؟ 

يَحتفل العالم العربي اليوم بلغته القومية. في احتفاليّاتِه إسرافٌ وتضليل: فواقعُ الضاد في عَصرنا، ورغم ضخامة ما أُنجز في خدمتها، لا يبعث البتةَ على التغني ولا...

تقرير مزدوج

أنا مُوظَّفٌ في شركة مَحليّة صَغيرَة. أعمل في مديريّة الموارد البَشرِيّة. مُهمّتي كتابةُ تقريرٍ عن كلّ سيرَةٍ ذاتيَّة يُرسلها المترشّحون، على ألاَّ يَتجاوز...