أنا مُوظَّفٌ في شركة مَحليّة صَغيرَة. أعمل في مديريّة الموارد البَشرِيّة. مُهمّتي كتابةُ تقريرٍ عن كلّ سيرَةٍ ذاتيَّة يُرسلها المترشّحون، على ألاَّ يَتجاوز التقرير ألفَ كلمة، وأن ينتهي بإحدى جملتَيْن، إمّا: “مُؤهّل لمواصلة مُسابقة التوظيف” أو “غير مُؤَهّل للمواصلة”. كتبتُ عشراتِ التقارير بناءً على الملفّات التي تَبعَث بها إليَّ الإدارة العليا. أمامي سيرة ذاتيّة مجهولة الهُويّة. إدارتي حريصة على حذف أسماء المترشحين وصورهم من الملفّات، تقليدًا لِما يَجري في شَركات فرنسا الكُبرى. طالَما أكّد لي مُديري ضرورة تَحرير تقارير مَوضوعيّة، مع أنه لا يَأخذ بما يرد فيها.
أقضي ساعات العَمل وحيدًا، في مَكتبي المتواضع. أحيانًا، أسمح لنفسي بالاستماع إلى “سيمفونية القَدر” ل#بتهوفن. أضعها بصوتٍ منخفضٍ وأسرَحُ مَع نغماتِها وأنا أغوص في أكداس المَلفات التي أمامي. بين يَديَّ الآن ملفٌّ ظريف. لا أدرى لماذا انجَذَبتُ إليه، ربّما بسبب اسم البلدة التي انحدَرَ منها. نَفس اسْم بَلدتي.
ألقيتُ نظرةً متأنّيّةً على مختلف أقسام هذه السّيرة الذاتية وشرعتُ مباشرةً في صياغة التقرير. يبدو هذا الشخص مُنحدِرًا من أسرة فقيرة تعيش في قريَة نائية، عَديمة المصادر بحسب ما وَرَدَ عن مَكان الولادة. أحْدِس أنّ ثرواتِها شَحيحة، وأنَّ قلَّة قليلة من أصحاب النفوذ تَنهَبها. عمومًا، ينتمون إلى جماعة الحزب الحاكم بقيادة عُمدَة وصوليّ. وكلهم يقيّدون الأحوال ويتمعّشون من الوشايَة. يبدو أنَّه حملَ في صدره حقدًا، قد يَكون مشروعًا بالنظر إلى ما قد كابَدَتْه قَريَتُه من تَهميش. هل هو من نَفسِ قَريَتي؟ أتَخَيّلُ كيف كان يقطع، كلّ يوم، سبع كيلومترات، ذهابًا وإيابًا، إلى أقرب مدرسةٍ. يذوق في سَيْره الأمَرَيَّن، لاسيما أيام البرد الشديد. عنَّ لي أيضًا أن أتصوَّرَه يُشعل بعضَ الأوراق الجافّة ليدفئَ يَدَيه الصَّغيرَتين في مُنتصف طريقه، كما كنتُ أفْعَل أنا من شدة البَرد حين كانت أصابِعي تتجمَّد. أعرفُ أنَّ الصّورة نمطيّة، لكن لم أستطع مقاومَةَ إغرائها لأنها لا تَزال محفورة في ذاكرتي.
بعد نجاحه في شهادة “الإعدادي”، لا شكَّ أنّه انتقلَ إلى المدينة لمتابعة تَعليمه الثانوي، حيث قضى سنواتٍ اكتشفَ خلالها الجَسَدَ ومَطالبَه المُلحَّة، وهذا طبيعي. وصار بَعدها يَشتري بناطيل دجينز مُمَزَّقة وسُترات زاهيَة. أرى بين سطور هذه السيرة الذاتية، أنه قد تعرّضَ لحادثةٍ ما، بقيت آثارُها في الهوايات التي كَتَب عناوينَها في أسفل القائمة. أجلتُ ببصري فيها: “الهواية: ممارسة كرَة التنس والاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكيّة”. أنا أقسِمُ أنه لم يمَسَّ، في حياته، هذه الكُرة ولا مَضرِبَها. أعرف جيّدًا هذه الحيلة. ولعله يعني “بالموسيقى الكلاسيكية”، ذاتَ سيمفونيّة القَدَر التي أنا بِصَدَد سماعها، أو بالأحرى “الفزّاني المرتاح”، الذي طالَما سَمعَه صغيرًا في قَريَته.
وبعد الحصول على شهادة الباكالوريا، بمعدل ضعيف للغاية في دَورَة التدارك، لم يبق له سوى شعبة التاريخ، التهيئة العمرانية أو الشّغل وهي شُعَبٌ لا تحمل أيَّ آفاق للتوظيف. يُسجِّلُ فيها، أعني: موظفو وزارة التعليم العالي الذين يَقضون ساعات دَوامهم على شاشة الفيسبوك، مثلما أمْضيهِ الآن في مَكتبي، أعدادَ الطلاّب الذين يفشلون في الحصول على مُعدّلات جيدة، من خلال لوغاريتمات الوزارة. أشدّدُ هنا: ليس لها أيُّ مَنطق. يتلاعب هؤلاء المُوَظّفون بمصير آلاف الطلبة، كما أتلاعب أنا بِالسّير الذاتية. لا يشتغلون سوى دقائقَ بين أحاديثهم التي لا تنتهي عن مباريات كرة القَدَم وبعض أخبار السياسة والفنّ.
سُجّلَ الشابُّ في شعبَة التاريخ صدفةً. قَبِلَ قَدَرَهُ على مَضضٍ. وانتقل إلى العاصمة حيث توجد كليته التي قضّى فيها أربع سنواتٍ، مرّت بين النوم إلى منتصف النهار وسهرات خمريّة. لا شكَّ أنَّ الخمرَ المُستهلكَ من النوع الرخيص جدًّا والرَّديء جدًّا. طبعًا، لم يكن هو الذي يشتري القوارير، بل “صديق” إحدى زميلاتِه، كان يشتغل “مقاول بناء” وكان يُهديهم إيّاها، نهاية الأسبوع، ليظهرَ كَرَمَه. بعد الظهر، كان يشاكسُ الفتيات والسّائحات اللواتي يرتَدْن الكورنيش ويتجوَّلن هناكَ.
أحْزِرُ أنّه تعرَّفَ على صديقته الفرنسيّة، شانتال، حين كانت تتمشّى على الكورنيش. غازَلَها بكلام باردٍ، لكنّها ما لبِثَت أن انصاعت إلى إغراءاتِه، تمامًا كما انصاعت بَعضهنّ لإغراءاتي، دون أن أدري السَّببَ. الظاهر أنّها تعيش على فَنْتازِم “العربيّ الأسمر”، ذي البِنيَة القويّة، الذي يُجامع مثلَ جَملٍ أو حِمارٍ. لا أظنّ أنها رضيتْ به إلاّ بسبب شَبَقها الأوروبيّ الهائل، إذ ليس لصاحبنا المستوى الثقافي المطلوب لمسامراتها، لأنّ الآنسة مولعة بأخبار الجاز. لِنَقُلْ إنَّها تَعشقُ، مثلاً، لويس أمسترونغ ويني غودمان وهو لا يشاركها هذه الميول. هَواهُ، مثلَ هَواي، كلاسيكيّ. هل هو صادقٌ في وَلَعه بالسنفونيات كما ذَكَرَه هنا؟ أعدتُ تشغيل السنفونية الخامسة. لا أشبعُ منها البَتَّة. ليست لي صورة عن هذا المترشّح. لكنْ لا أظنّ أنَّ سماتِ وجههِ تُناسبُ تَطلّعاتها الجماليّة. أتخيلها تَرتدي قميصًا يَحمل صورة ملكة جمال البرازيل. كما أتخيّل صورة فَريق “الترجّي” على قَميصه.
لا أدري كيف يَسّرتْ له الحصولَ على تأشيرةٍ فقد سافرَا معًا إلى فرنسا بعد اتّصالات مكثفة مع سفارة بَلدها. أعلمُ أنّ الرغبة، أقصد: الليبدو وقد لَطّفتُها عمدًا، تَصنع المُعجزات. المهمّ، نَزَلاَ في مدينتها الصغيرة، شرقَ فرنسا، بَعدَ رحلة عادية. أهلها عنصريّون، لم يقبلوا قطّ هؤلاء المُهاجرين الذين “يحتلون أراضيهم، ينزعون لقمةَ الخبز من أفواه أبنائهم ويَغتَصبُون بناتِهم وقد يَذبحون أساتذتَهم وقسّيسيهم”. هكذا، تَخيّلتُهم يَتَهامسون.
بفضل إجازته، تمكّن من التسجيل في الجامعة الصغيرة، مستوى الباكالوريس، شعبة “علوم التاريخ”. رَفضت الإدارة إجراءَ المعادلة بذَريعة أنَّ الجامعات الأجنبيَّة لا تتقن، بالضرورة، (هذه الكلمة من عِندها) المنهجيّة العلميّة. قرَّرَ دراسةَ تاريخ المهاجرين في الجهة وأسبابَ رَفْضهم الانصهار في المجتمع المحيط بهم. جلّهم من قدماء الحركيّين الذين جاءوا من الجزائر (أعني: فَرّوا بجُلودهم منها، وهذه من عندي)، ومن انتِقام ذَويهم بعد أن تَرَكَتهم فرنسا لحالهم، يقتاتون من معاشٍ ضئيل، لا يكفي لتسديد ثمن كِراء تلكَ الغرف الضيّقة، ضمنَ الأبراج العالية التي يُقيمون بها.
استَنْتَجْتُ أنه فَشل فشلاً ذريعًا أثناء مناقشة رسالته. لم ينل سوى دَرَجة: “دونَ المتوسط”، وفقًا للمُلاحَظَة التي وَضعها في سيرته الذاتية. ربّما لأنَّه لَم يكن يَلتَزم بِالضَّوابط الموضوعيّة أثناء النّقاش. حَدَسْتُ أنَّ أطروحَتَه تضمَّنَت أحكامًا غيرَ مبرَّرَة وحتّى أخبارًا اختَلَقَها، تَمامًا كما أختلقُ تَقاريري. سجّلَ في السنة الثانية. وظلّ يدرس قليلاً ويشاكسُ “الزميلاتِ” كثيرًا. وبعد ليلَةٍ ساخنة مع شانتال، (ربّما حافظَ على علاقته بها لأنّه يَسكن في بيتها؟)، قرّرتْ مكافأتَه: أهدَت له تذكرةَ حفلٍ موسيقيّ، مع ثمن الذّهاب والإياب في القطار، إلى أرقى قاعات باريس، لعلمِها بشغفه (بشغفي؟؟؟) بالموسيقى. رأى السعرَ مَرقومًا على التذكرة: خمسةٌ وأربعونَ يورو. ما أظنّه أجابَ بشيءٍ. احتفظَ بالتذاكر في انتظار تاريخ الحفل. أثناء ذلك، تعرَّفَ على فتاةٍ عربية، بنتِ بلده (أتكونُ هي أم وَلَدَيْه اللَّذَيْن ذَكرَهما في سيرته؟). ربَّما دَعاها إلى بيت شانتال والتي اكتشفتِ الأمرَ صدفةً، فقررتْ الانتقامَ. أتخيَّلها تصيحُ: “رُدَّ لي ثمنَ التذكرة، العَرب، أنتم لا تستحقون السنفونيات”. ثم اتُّهمَتْه بالعُنف الجسدي والسَّرقَة. لم تُعوزها الأدلّة. حُكمَ عَليه بالسّجن مدّة سنة كاملةٍ. لم يشفع له انضمامه إلى جمعيّات المُحافظة على البيئة. كلانا يعلم أنه انضمام شكليّ.
رُفضَ بعد ذلك طَلَبُ تجديد الإقامة فاضْطُرَّ إلى العودة إلى بَلَده ليبدَأ البَحث عن شُغْل. ولعل سيرته الذاتيّة التي أراها أمامي واحدة من عشرات بَعثَ بها إلى جهاتٍ عديدةٍ. ودون أدنى تَصنّعٍ، أخذتُ أعيدُ قراءَة المعلومات الواردة أمامي، يا إلهي! كأنَّ هذه السيرة سيرتي. أرْسَلتُها منذ أيامٍ إلى الإدارَة العليا، فَأعادَتها إلَيَّ بطريق الخَطَأ والإهمال. لا زالتُ أصغي إلى سيمفونيّة القَدَر. كتبتُ: “غير مُؤهَّل لمواصلة مُسابقة التوظيف”.