غطّت شُهرة تفسير القرآن، “التحرير والتنوير”، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) على سائر أعماله الأدبيّة والفكريّة الأخرى. ولعلّ من أبعد الاحتمالات في التصوّر أن ينكبَّ شارحُ القرآن الكريم على ديوان شاعرٍ اعتبره النقّاد العربُ القدامى وبالإجماع “زنديقًا، خفيفَ الدّين، متفحّشًا في أقواله”، حيث لم تمنع كلّ هذه الانتقادات الحادّة العالم التونسيّ ابنَ عاشور من التصدّي لجمع ما تناثَر من قصائد ديوانه، حتى الأكثرَ “فُحشًا”، وشرحها، بعدما كانت مخطوطَةً جزئيًّا أو متفرّقة في كُتب التّاريخ والنّقد الأدبيّ وتراجم الشعراء. فقد عاد ابن عاشور إلى نسخةٍ مَطموسة كان قد اشتراها جدُّهُ لأمّه، الوزير محمد العزيز بوعتّور (1825-1907) من مصر، وحقّقها مضيفًا إليها العديدَ من القصائد والأبيات الضائعة، مرتبًا إياها حسب الترتيب الألفبائي للقوافي.
وأما منهج تحقيق النّصوص فيقوم على التّعريف أوّلاً بالظّروف العامّة التي اكتنفت صياغَةَ القصيدة وما حفّ بها من سياقات سياسيّة واجتماعيّة، ليمرّ المحقّق بعد ذبك إلى الشّرح اللغويّ الخطّي للأبيات، واحدًا تلو الآخر، حتى يأتي على القصيدة كاملةً. وإذا كان البيتُ واضحَ المعنى، لا يحتاج إلى تفسيرٍ، فإنّه لا يعلّق عليه. والملاحظ أنّ الشيخ قد ركّز على الأبعاد اللغويّة والبلاغيّة في تحليله الأدبيّ، لأنّه كان يعتبر بشّارًا من الشّعراء المُولّدين الذين يصحُّ الاستدلال بِشِعرهم لمتانته ومَلاحَته، جاريًا في ذلك على رأي غالبيّة قُدماء النقّاد الذين أجمعوا على قوة شعره، رغم سُمعته السلبيّة.
هذا وقد استهلّ ابن عاشور عمَلَه هذا، الواقع في جزءيْن، بمقدّمة مُطوّلة تتجاوز المائة والعشرين صفحة (طبعة دار السلام ودار سحنون)، تعرّض فيها إلى سيرة بشّار ونَسَبه ومَولده وصفاته ومكانته لدى الخلفاء والأمراء، منوّهًا بسَعَة عِلمِهِ بالعربيّة وتفنّنه في مجالاتها، كما خاض في مكانة شعره ضمن تاريخ اللغة والآداب العربيّة ولدى كبار نُقّاد الأدب، كما تطرّق، في الخاتمة، إلى قصّة ديوانه المَخطوط وسيَرانه.
وممّا يستحقّ الإشارة تعامل صاحب مقاصد “الشّريعة الإسلاميّة” (1937) مع أبيات الفُحش وفَساد العقيدة وحتى “الإلحاد” التي يَزخر بها ديوان بشّار. فقد قَرّر إثباتها بِالكليّة وحتى عدم حَذف الكلمات النابية، منتقدًا، من طرفٍ خفيٍّ، أولئك الذين يمارسون حقّ الوصاية الأخلاقيّة والرقابة الدينيّة على الأدب، راميًا إيّاهم بقصر النظر وضَعف الحجّة.
وهكذا، يضعنا هذا التحقيق أمام عَمل علميٍّ يكاد يكون منقرضًا في المشهد الثقافي العربي الرّاهن، حيث لم يَعد يتصدّى للشرح اللغويّ للشعر، عدا قلة قليلة من الباحثين، ربما لاعتبار مثل هذه الشّروح من مظاهر السكولاستيكيّة التي سادت في القرون الوسطى والتي تقتل جماليّة القصيد وتضيّق آفاقه التأويليّة. إلا أنّ ممارسة ابن عاشور للشرح تنمّ عن اطّلاع واسعٍ بأساليب العرب واستخدامات بشّار لأفانين البلاغة وغَريب الكلام. ولعل أهمّ ما أغنى شروحه هو الإشارات والمراجع الثقافيّة حيث كان يتوسّع في بيان ما يحيل عليه بشّار من أسماء القبائل والعَشائر والأماكن وأدوات حضاريّة كالملابس والمآكل، فضلاً عن العقائد والعادات والتمثلات الثقافيّة…ممّا يجعل من هذا التحقيق إعادة بناء شاملة لما يسمّيه امبرتو إيكو (1932-2016) “موسوعة المعنى”، أيْ: الجهاز المفاهيمي والثقافي الذي تستدعيه القصيدة، والذي يستحضره بدوره الشارح لفهم معانيها وإعادة بنائها.
ولا ننسى أنّ تحقيق ابن عاشور يندرجُ ضمن حركة إحياء التراث الأدبيّ العربي القديم، ولا سيماء المتميز منه بحداثته وتفنّنه، فما حرّكه هو الرغبة في تجديد موارِد الضّاد، في أواسط القرن الماضي، ورفدها بعيون الشعر التي تزيدها نَضارةً، في إطار الإحيائيّة اللغويّة التي انتمى إليها ودافع عنها. ذلك أنّ شعرَ بَشار شدّ، ولا يزال يشدّ، أجيالاً عديدة من القراء بعلاقاتٍ شتّى، حللها الباحث التونسي حسين الواد (1948-2018) في كتابه: “تدور على غير أسمائها: نظر في شعر بشار بن بُرد (1992)”، معدّدًا الأسباب التي جعلت “الجمهور”، بحَسب المعنى الذي أطلقه الفيلسوف الألماني هانس ياوس (1921-1997) في كتاب “من جمالية للتلقي” (1978)، ينشدّ إلى شعره، عناصر في الشعر تَسحر، مع أنّها أبعد من اللغة، وأرسخ في الثقافة. وتلك وظيفة الأدَب القَلِق والشّعر المُنزعج المزعج.
هذا التحقيق بما تضمّنه من شروحٍ وعروض موسوعيّة وإضافات، عمل علميٌّ يضاهي ما قام به كبار المستشرقين، بل ويتجاوزه بأشواطٍ عديدة. وهو دليلٌ قاطع على أنّ شيوخ العلوم الشرعيّة والدينيّة لا يقلون كفاءةً عن الباحثين الوضعيّين، وهم كغيرهم قادرون على الدرس الموضوعيّ لنصوص التراث، بعد تحريرها وتحقيق موادّها على النحو الأمثل. ولطالما ازدرى المستشرقون الذين احتكروا، بزعمهم، مجال التحقيق العلميّ، ما ينهض به العرب والمسلمون باعتباره لا يرقى الى مصافّ البحث الفيلولوجي. ديوان بشار المُتهتّك، بتحقيق أكبر مفسري القرآن في عصرنا، يفنّد هذا الادّعاء ويَخلط كلّ الأوراق.