أدرك المستشرق والمُؤرّخ الهولنديّ رينهارت دوزي (1820-1880) أنّ المعاجم العربيّة القديمة قد أُغلِقت على الدلالات الماضية، فلم تَعد تقبل ما طَرَأ على الضّاد، طيلة العصور الوسطى، من مُفردات ومعانٍ مولّدة. فقد أتاح له عملُه حول “أسماء الملابس العربيّة” (1845) فُرصة الاطّلاع المعمَّق على كُتب الرّحلة والأدب وجغرافيا البلدان الإسلاميّة، وهناك اكتَشَف مدى تطوّر الضاد وتكيّفها مع السيّاقات الثقافيّة المتنوّعة، ولا سّيما في الأندلس، حيث رقّت حواشي الحياة فتولّدت بعض المُفردات، وتوسّعت دلالات أخرى أو تغيّرت أبنيتها الصوتيّة والصرفيّة.
وهذه هي الظواهر اللغويّة التي حاوَل دوزي رَصْدَها وتَقييدها في كتابه: “تكملة المعاجم العربيّة” (1881)، الذي جاء لا لتكرار نفس المعاني المرسومة في المعجمات القديمة، وإنما إضافةً وتذييلاً لما سبق وأن ذُكرَ فيها، حتى يكتمل مَتنُ الضاد بما عَرَفَتْه من المعاني المستجدّة عبر التّاريخ، وذلك طيلة سنواتٍ من العمل الدؤوب، قضّاها دوزي في بيته الريفي عاكفاً على المخطوطات والمطبوعات النادرة يجرّدها ويَسطرها.
وفي مقدّمة هذه “التكملة”، انتقد دوزي تعنّتَ اللغويين العرب القدامى الذين رفضوا مبدَأَ تطوّر الضاد وأصرّوا على حَصرها في نطاق “الفُصحى”، مُعرضينَ عمّا جرى فيها وفي الفكر الذي تعامل بها من تحوّلات طاولت معاني الكلمات وتركيبها الصوتيّ والصرفيّ. كما أنّه عاب على المستشرقين، وخاصةً جورج ولهايم فريتاغ (1788-1861)، صاحب “المعجم العربي اللاتيني”، ومعاصِره إدوارد لاين (1801-1876) صاحب “مدّ القاموس”، عدم العودة إلى لغة كُتب “الأدب”، بمَعناه الجاحظيّ، والاستنكاف عن استخراج ما فيها لجَرده بشَكلٍ نسقيّ.
تأثّر بالنظرية الداروينية فاعتبر اللغة كائناً حيّاً
كما عدّد، في هذه المقدمة، سائر مَصادره الأدبيّة والتاريخيّة وما كُتبَ عنها إلى زمنه باللغات الأوروبيّة التي استَقى منها مادة “تكملته”. وقد أشار إلى مُدوّنة مجهولة، لعلّها ضاعت إلى الأبد، وهي الهوامش التي خطّها بعض المستشرقين على المعاجم الأوروبيّة – العربيّة، إصلاحاً وإضافةً وتعديلاً، وكانوا قد جمعوها بفضل قراءاتهم المتعدّدة في مصادرنا القديمة. فساعدته على إكمال المَداخل وتعديل مضامينها وإثرائها. ولذلك، قرّر طبع هذه “الهوامش”، التي التقطها وقيّدها طيلَة ثلاثين سنةً من المطالعات والمراجعات من دون إعادة شرحها، لا سيما إذا كانت الكلمة – المَدخل قد سبق وأن فسّرها لاين أو فريتاغ.
ومن الطبيعيّ أن تضمّ المداخل التي رصَدَها العديد من الاستخدامات العاميّة، المَحكيّة في أقاليم العالم الإسلامي، مثل الأندلس ومصر وسورية وغيرها، وأن يضرب عليها دوزي أمثلةً توضيحيّة من كتب الأدب الشعبيّ والأمثال والمحاورات غير الرسميّة. وبما أنّ مُنطَلَق هذا الباحث الهولندي التأكيد على تطوّر اللغة العربيّة وبيان تحوّل دلالات كلماتها، فقد أشار إلى أنَّ السجلّ الفصيح لم يَعد مستخدماً بُعيْد قَرنَين من انتشار الإسلام، أي: في القرن التاسع للميلاد، حيث أهملَ الأتراك والبَربر والفُرس، وحتى العرب، الالتزام بقواعد الإعراب وأُسندت إلى الكلمات معانٍ أخَر غير تلك التي نصّت عليها ابتداءً، وهو ما أدّى إلى “تحوير جذري للعربية” في الأقاليم الناطقة بها، ولكن بدرجاتٍ متفاوتة.
كما يعكس هذا القاموس، والذي راوده حلمُ تحقيقه مُنذ كان في العشرينيات من عمره، ما كان سائداً في عصره من النظريّات اللغويّة المتأثّرة بالبيولوجيا وعلم الأحياء وما باطَنها من نظريات النشوء والتطور الداروينيّة، وهي التي تعتبر اللغة كائناً حيّاً يتطوّر، وهي كذلك دون شكّ، ولكنْ ليس لحدّ إنكار ما قامت عليه اللغة، أي هذا المتن الفصيح الذي لا تزال معانيه قائمةً، وإن أنكرها المنكرون. كما وظّف المنهج الفيلولوجي في صرامته ودقّته، حيث كان الشّغل الشاغل لدوزي حصر الدلالات الجديدة التي طرأت على الكلمات وتوثيقها مع التركيز، فقط، على ما أسماه: “اللغة الحيّة”، أو الوُسطى التي يتعامل عبرها الناطقون بالضاد.
إلّا أنّه لم يَقم بأيّ مجهود نظري لتحديد مفهوم اللغة الحيّة ولا مجالها، ولا الحدود الزمنيّة التي تجعل من كلمة ما مَيّتة أو متروكةً. ذلك أنّ ظواهرَ الهَجر والتقادم ليست مُطلقة، فَكم من كلمة ظُنّ بها المَوتُ والبِلى، فإذا بها حيّة تَسعى في الصحافة والخُطب والمحاورات، حتى الأكثر شعبيّة. كما أنه لم يميّز بين المتن المعياريّ وبين الاستخدامات الفرديّة، التي ربّما جرت على سبيل الاعتباط والتجريب، فلم تُقرِّها المعاجم لأنها لا تتوافق مع الحدّ الأدنى من معايير الصحّة والمقبوليّة، والتي ربما يكون قد رصدها في أدب الرحلة أو نطق بها لسان إحدى شخصيات “ألف ليلة وليلة”، فلم يكن لها مستقبل في الاستعمال ولا في متون المعاجم، فتسقط ضمن ما يسقط من كلام كَثير نُنتِجه عفويّاً.
يجسّد التحلّي بالصبر العلمي من أجل توثيق أطوار الضاد
وأخيرًا، لا بد من إعادة النظر في تراتبية الكلمات المقترضة، فليست كلّها على قدم المساواة في المقبوليّة والتداول. فبعضها عِلميٌّ اقتصر حضوره في الكتب المختصّة، وليس له من حياة خارج هذا السياق، وبعضها مجرّد تعريب فرديّ ضيّق، لا أثَرَ له في الاستخدامات الشعبيّة الواسعة. ومع ذلك، أفرط دوزي في رصد المقترض ودمجه طيَّ عمله هذا.
هذا وقد خَصّص المعجمي التونسي إبراهيم بن مراد مقالاً علميّاً موسَّعاً لنقد الهنات والأخطاء التي وقع فيها دوزي، ومنها الاشتباه في الجذور الثلاثيّة التي أعاد إليها المفردات، ومنها بعض الترجمات غير الدقيقة. ونضيف إلى ذلك مأخذاً آخر وهو صمته على أهمّ مَرجع، في تلك الفترة، ولا يزال كذلك إلى أيامنا، وهو معجم اللغوي البولندي كازيمرسكي (1808-1887). فهل إنّ الكتاب لم يصل إليه فعلاً، رغم مرور عشرين عاماً على صدوره؟ أم أنه لم يكن يعترف به مجهوداً علميّاً يصلح أن يكون مرجعاً؟ في الوقت الراهن، لا نملك الإجابة عن هذا السؤال، ولن نرجّحَ فرضيّة التنافس والرغبة في طمس مجهود الغير رغبةً وقع دوزي فريستَها.
تظل “التكملة”، مع ذلك، عملاً أثيراً في الجمع والتحقيق، بفضل الأربعمائة وخمسين كتاباً، في أكثر من عشر لغاتٍ، التي عاد إليها دوزي، وبفضل دقّة كلّ هامش وإحالة رُبِطت بها المعاني المذكورة. كما يُجسّد التحلّي بالصبر العلمي، الذي بات اليوم مفقوداً لدى أغلب الدارسين، من أجل تصويرٍ موثّق لطور كامل من أطوار الضاد وتاريخها. ولذلك، لا بدّ من عدّه من مَرجعيات “معجم الدوحة التاريخيّ”، بما هو تحقيق، بعد قرن ونصفٍ، لأمنية دوزي. فقد كتب الرّجل، سنة 1881، أمَلَه في “التقاء عُلماء مُختَصّين في المعجميّة، من القارّات الخمس، من أجل إصدار معجم تاريخي يَعرض إلى التطوّرات الدلالية الحاصلة في كلّ مفردة، بالاعتماد على المصادر المتنوّعة، لغوييّها وتاريخيّها”، وهو عينُ ما نهض به علماء عَرب وأجانب في قطر خلال السنوات الماضية. ونأمل ألا يتأخّر إكماله، فتَصدق نبوءة “التكملة”.