نلاحظ مُفارقة لافِتة بين ازدهار معاجم الشّواهد والمُختارات في كُتب القدماء، وبين غياب هذا الصنف من التآليف في النّتاج الألسنيّ-الثقافي العربيّ في عصرنا. فقد كان مَأثورُ الكلام يُجمَع في مَوسوعاتٍ ويُرتّب إمّا بحسب موضوعاتِه ومعانيه أو بحسب أبنيته وقوافيه، وأحيانا حسب الحَرف الأول منه، وقد يَعقبه ذكرٌ لقائِله والتذكير بمناسبات صياغته بالإضافة إلى بَيان البَحر العروضي وشَرح الغَريب، مما يجعل من هذه المأثورات مكوّنًا رئيسًا في الهويّة الجماليّة لدى العرب وفي مَنظومة القيم الأخلاقية لديهم.
فقد كان هؤلاء القدماء يُخصّصون معاجمَ كاملة يُطلقون عليها: “مَعاجمَ المعاني”، وتدلّ هذه الكلمة الغامضة هنا على المِحور الفكريّ أو “الثّيمة”، بِلغة عصرنا بما هي تَعريبٌ للمُصطلح الفرنسيّ thématique حيث كانوا يحشدون فيها الأبيات من الشّعر، وربّما جُمَلاً من بَديع النّثر الفني، التي تجسِّد قِيم الجَماعة، وأشهر الأمثلة على ذلك كتاب” “المَعاني الكبير في أبيات المعاني” لابن قتيبة الدينوري (828-889) وكتاب “الأمثال” لابن سَلام الجُمحيّ (756-845)، ويَدخل في هذا الضّرب كتبُ المُختارات مثل “الأصمَعيات” للأصمعي (740-828) و”ديوان الحماسة” لأبي تمّام وغيرها كثيرٌ.
وتختار هذه الشواهد، عمومًا، من العصر الجاهلي وصدر الإسلام الذي يُعدّ المرجع الأساسي في تحديد فَصاحة الكلمات شكليًّا، والتجسيد الأمثل لجماليتها أسلوبيًّا، ولسَلامة مَعانيها مضمونيًّا. وهذا هو الثالوث اللفظي- المعنويّ-القيمي الذي صَدَر عنه عُلماء البَلاغة واللغة وحتى الفلاسفة الأقدمون في اختياراتهم من أجل توضيح معايير الإنتاج الفنّي، فضلاً عن المبادئ العُليا التي تَحكم الأمّة. ولذلك استمرّت هذه الكُتب والمختارات حيّةً في ضمائرها، يَتجدّد التذكير بها في انتظامٍ إلى أن انبلج فجرُ الحداثة.
ففي العصر الحديث، تنوّع التعامل مع هذا الإرث الثّريّ من الشواهد بعد أن صارت تطرح إشكالاً أدبيًّا وفلسفيًّا عميقًا بسبب نسبية القيم وجدالات التجدّد والتقادم. فمن جهة أولى دَرَجت بعض المعاجِم والخطابات الأخرى، بما فيها السّياسيّ، إلى إعادة إنتاج هذه الشواهد وإيرادها طيَّها. إلا أنّ هذا التمشّي يُغفل التطوّر الحتميّ للغة وتغيّر معايير فَصاحتها وإطلاق معانيها، فضلاً عن التحولات العَميقة التي طاولت منظومة القِيم التي باتَت تحكُم مجتمعاتنا المعاصرة، حيث تأكد الانتقال من النموذج القبليّ- الدّيني إلى نموذج أقرب إلى الوَضعيّة الكونية (positivisme universel ).
واللافت أيضا أنَّ آلية الاستشهاد في حدّ ذاتها هي التي غابت في مَعاجمنا المعاصرة، فلا نكادُ نعثر عن شواهدَ لاستخدام المُفردات المُولّدة، سواء كان التوليد في الشكل أو المضمون، كما لو أنها لا تتوفر على شَرعيّة التمثيل على سلامَة المُفردة ومقبوليّتها، فلا نعثر -مثلاً- على شواهد استخدام السّاسة العرب المُعاصرين لِكلمات وعباراتٍ بعيْنها. وقد يبرّر هذا الغياب بضعف المَلكة الخطابيّة لسياسيّي العالم العربي، باستثناء طَفَرات تعبيريّة نادرة يمكن أن تذهَب مثلاً كَكلمة “علوج” في فم سعيد الصّحّاف، وزير الإعلام العراقي السابق، أو فلتَات القذافي ونوادر الحبيب بورقيبة دون أن ننسى لقطات الحَسن الثاني في خطاباته المُرتجلة … فالقضية تتعلق بالاستعمال الرشيق فيما يصوغه هؤلاء السّاسة الذي يصلح أن يكون أمثلةً على الكلام وشهادة عبور له من أجل أن تدمج في المعاجم وتتحصل على شهادة “المواطنة”.
وفي مقابل هذا الغياب، نجد أن معاجم الشواهد الفرنسيّة خصصت حيّزًا كبيرًا للمقولات السياسيّة وبعضها الأخرى للكلمات الساخرة من المرأة والمجتمع والمعارضة… مثل “معجم الشواهد السياسية” لداميان بيقوق الذي جمع فيه أكثر 1600 مثلٍ سائر للسّاسة الفرنسيين من أجل مدّ المتكلمين بما يُزيّن كلامَهم، وهذه هي وظيفة الشاهد الأولى: الإقناع والترصيع والتدليل على صدقيّة الرأي ومتانته، إلا أن قيمة الشواهد لا تتوقف على هذه الوظيفة التزينيّة للكلام، وإنما تتعداه لكونها المرآة العاكسة للهُويّة الجماليّة لمستعملي اللغة في فترة من فترات تاريخهم، تَعكس المقاييس اللغويّة التي يتطلعون إليها والقيم المجتمعيّة التي يودّون أن تضبطَ رؤيتَهم للكون، ذلك أنّ بنية الشواهد لا تختلف عن الحِكم والأمثال السائرة التي طالما عَمرت كتب النقد القديمة لأنها تصوّر عبقرية الذهن/الكلام اللذيْن يلتقطان نقطةً حاسمة فيُعبّران عنها بما يذهب مثلاً وشاهداً.
ومن جهة ثانية، هناك مِن صُنّاع المعاجم الحديثة مَن اختار حلاًّ جذريًا، منذ عصر النهضة، يتمثل في حَذف الشواهد تمامًا من شَرح المداخل اللغويّة، باعتبارها تثقل هذه الشرح أولاً، ثم لأنَّ الذائقة الحديثة لم تعد تَستسيغها ثانيًا، أو بالنظر إلى اعتبارها ذاتَ طابعٍ ديني، حيث ترسّخت القناعَة لقرونٍ بِأنّ النص القرآني هو نموذج الفصاحة وعنوانُها، مع اختلافٍ في حُجّية فصاحة الحديث النبوي، وهذا ما قام كلٌّ من بُطرس البستاني في “مُحيط المحيط” (1867) ولويس شيخو في مُعجم الطلاب (1905).
كما نلحظ عزوفًا واضحًا عن اعتبار الأدباء المُحدثين مرجعًا يُستدلّ بكلامهم وتُجْمع منه الشواهد. الاستثناء الوحيد كان في حلٍّ وَسَطٍ نَحى إليه مُعجم “القاموس الجديد للطلاب” (1985) للجيلاني بلحاج يحيى وزملائه، الذين ضمّنوا فيه أبياتًا لأدباء تونسيين معاصرين مثل أبي القاسم الشابي والبَشير خَرَيّف، فضلا عن إيراد العديد من الشواهد القديمة بإيعازٍ من الأديب التونسي محمود المسعدي الذي قدّم لهذا المُعجم بعد أن التَمَس من القائمين عليه، في منتصف مرحلة تأليفه، إضافة شَواهد من أجل تمكين الناشئة من الاطلاع على غُرَرها وفرائدها والتشبّع بما فيها من جمالية النّظم والتأليف.
يشمل التحوّل الأخير المَضمون القيمي (axiologique) لهذه الشواهد، فقد كانت في السابق صادحة بالمثل العليا للجماعة، وإذا بها تُختزن في نظراتٍ متفرّقة عن المرأة والحَرب والطبيعة، دون أيّ مَغزًى أخلاقيّ يساعد على الارتقاء بالضّمير في معارج الكمال. إذ تكفي نظرة سريعة على ما يُسمّى: “المحفوظات”، في مدارسنا الابتدائيّة، لنرى كيف حادت، طيلة القرن الأخير، من الإشادة بمكارم الأخلاق إلى وَصف الطّبيعة وتمجيد الوطن في أحسن الأحوال، وإلى مُجرّد مديحٍ للقائد المُبجّل في أسوئها.
أبعدُ من مجرّد مقولات لغويّة، مُهمّشة في بطون المعاجم، أو أدواتٍ للتضمين البلاغي وترصيع الخطابات، تُعد الشّواهد علاماتٍ دالة على الاختيارات العميقة للثقافة العربيّة، من جهة الشكل الأسلوبيّ ظاهرًا، ومن جِهة التمثيل الحضاري للقيم والمبادئ التي تُحرّك تاريخَ العرب وتَعطف قلوبَهم وأفكارهم نحو ما يرتضونه مِن التوجهات في التاريخ. يعبر غيابها اليوم في الخطاب العربي عن ضمور منظومَة قيم واضحة المعالم، بل عن أزمَة حقيقية في بناء التوجّهات الكبرى للأمّة واقتصارها إما على أمثلة شعبيّة أفناها البلى وكثرَة الاستخدام أو اقتباس المقولات من غَيرنا أو التغييب المقصود لها. وفي كل الحالات تبدو العودة لهذه المختارات ضرورةً، لأنّ “اختيار المرء قطعةٌ من كَبِده”.