معاجم الصوفية: أحوالٌ ولا معارف، حذّر الصوفية الأوائل من التعلّق بألفاظ مَذهبهم والبحث الذهني في معانيها دون تذوُّقها بالبواطن، فعَدُّوا جمعها في معجمٍ مُرتَّب من باب التكلّف الذي يُعطّل المسير الروحي. وقد شكّل هذا الموقف السلبي من تحديد المفاهيم عبر مُواضعات اللغة الناقصة، بذرةَ المفارقة التي حَكمت جدلية المعاني المحصورة في الأوراق والحقائق المكتشفة بِالأذواق.
وقد وَرَد عن عليّ الخوّاص (القرن العاشر للهجرة)، أحد وجوههم البارزة، قولُه: “إيَّاكَ أن تعتقدَ، يا أخي، إذا طالعتَ كتبَ القوم، وعَرَفتَ مُصطلَحَهم في ألفاظهم أنك صرتَ صوفياً. إنَّما التصوُّف التخلُّقُ بأخلاقهم، ومَعرفة طرق استنباطهم لجميع الآداب والأخلاق التي تَحَلّوا بها من الكتاب والسنة”.
ورغم هذا التنبيه، فقد بادر أبو بكر الكلاباذي (القرن الرابع للهجرة) بتأليف “التعرُّفُ عَلى مَذهب أهل التصوُّف”، الذي كان، رغم قلّة صفحاته، موسوعةً اصطلاحية أساسية، حتى قيل: “لولا التعرُّف لَما عُرِف التصوُّف”. وفيه شَرَح بعباراتٍ صافية ما يدور بين الصوفية من الألفاظ. ثم اتبعه عبد الكريم القُشيري (986 – 1072) الذي وَضع “رسالتَه” الشهيرة. وكان من وظائفها تفسير ما يَدور بين صوفية زمانه، وهو من أعلامهم، من الاصطلاحات التي هي بينهم كالرموز التي لا يُدركها مَن ليس منهم، فخَصَّص القسم الأكبر من “الرسالة القشيريّة” لشرح ما تواطأ عليه القوم من مُفردات مثل: سُكْر، صَحْو، فَناء، بَقاء… مجتهداً في إظهار التوافق بين المُؤدَّى الروحي لهذه المُصطلحات وتَعاليم الكتاب والسنَّة ضمن جدل الفقه والتصوف.
فقد سعى الصوفية، منذ ظهورهم، إلى إضفاء المشروعية على ما اجتَرَحوه من المقامات والأحوال. يقول القشيري: “منَ المعلوم ﺃﻥَّ ﻛﻞﱠ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ لهم ﺃﻟﻔﺎﻅٌ ﻳَﺴﺘﻌﻤﻠﻮنها ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ، ﺍﻧﻔﺮﺩﻭﺍ بها ﻋَﻤَّﻦ ﺳﻮﺍﻫﻢ، ﺗﻮﺍﻃؤﻮﺍ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻷﻏﺮﺍﺽ لهم ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺗﻘﺮﻳﺐ ﺍﻟﻔﻬﻢ ﻋﻠﻰ المخاطبين بها، ﺃﻭ ﺗﺴﻬﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ في ﺍﻟﻮﻗﻮﻑ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﻢ ﺑﺈﻃﻼﻗﻬﺎ. ﻭﻫﺬه ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻮﻥ ﺃﻟﻔﺎﻇﺎً ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ، ﻗﺼﺪﻭﺍ بها ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﻢ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ، ﻭالإجمال ﻭﺍﻟﺴﺘُّﺮ ﻋﻠﻰ ﻣَﻦ ﺑَﺎﻳَﻨَﻬﻢ في ﻃﺮﻳﻘﺘﻬﻢ؛ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﻌﺎني ﺃﻟﻔﺎﻇﻬﻢ ﻣﺴﺘﺒﻬﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺟﺎﻧﺐ، غَيْرة ﻣﻨﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺮﺍﺭﻫﻢ ﺃﻥ ﺗﺸﻴﻊَ في غير ﺃﻫﻠﻬﺎ”.
وأوّل من أفرَد، من القدماء، معجمًا كاملاً للمفردات الصوفية، بالمعنى التقني للكلمة، هو عبد الرزاق الكاشاني (القرن الثامن للهجرة) صاحب “اصطلاحات الصوفية”. وقد نَظَّم مداخلَ مُعجَمه وفقَ مَنهجيّة ثلاثية المراحل: تعريف مختصر للمُصطلح، شرح مضامينه الروحيّة، وذكر شواهده من القرآن والحديث أو الشعر والنثر.
وجاءت بعدها لحظة علي الجرجاني (القرن التاسع للهجرة)، في كتاب “التعريفات”، وهو في ظاهره موسوعة لكل مصطلحات العلوم والفنون حتى عَصره، ولكنّ جلّه مخصّص لمفاهيم التصوف وما استقرَّ فيه من المبادئ المجرّدة التي تشكّل نسيجه النظري. وهنا غاب عن هذه التعريفات همُّ التشريع الفقهي والاجتهاد في إظهار التوافق بين محتوى المفهوم ودلائل الكتاب والحديث.
واتبعه في هذا المنهج محمد علي التهانوي (القرن الثاني عشر للهِجرة) في موسوعته “كشَّاف اصطلاحات الفنون”، التي تضم حدودَ الصوفية الدالة على شعائرهم ومقاماتهم والكلمات التي تشيع في خطاباتهم ومذاكراتهم، بعد أن اقترن التصوُّف بالفلسفات الإشراقية وتأثَّر بروافد غير إسلامية، إغريقيَّة ومسيحيّة وغنوصية، خصوصاً في عهد محيي الدين بن عَربي (القرن الثالث عشر)، والذي كثَّف من استعمال الرموز والإشارات والتلميحات في خطابه، ومَعدنه من الأدب.
وأمّا في الحقبة المعاصرة، فقد كتبَ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883 – 1962) “محاولة في جذور المعجم الاصطلاحي للتصوُّف الإسلامي” سنة 1914، حين كان الاستشراق في أوج عطائه في حقل الإسلاميات. وفيه قدّم بعض التعريفات، مازجاً فيها بين النصوص العربية والفارسية، في تتمةٍ لأطروحته عن “مأساة الحلاج” الذي حَبَّره في أربعة أجزاء.
ثم اشتهر بين الناس “المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة” (1981) الذي أنْجَزته أستاذة التصوُّف في الجامعة اللبنانية سعاد الحكيم ورتّبته بحسب حروف المعجم. وقد تَضمَّن 706 مداخل على امتداد 1311 صفحةً مُخَصَّصة لمفردات فيلسوف مُرسية ابن عَربي، وقد استقتها من مُدَونته الفلسفيّة. ويعدّ هذا العَمل الرصين من أمتن الصياغات العلميّة للمعاجم المختصّة.
ثم تتالت بعدها معاجم أخرى مثل: “المُعجم الصوفي” لمحمود عبد الرازق، وهو رسالة دكتوراه لبيان الأصول القرآنية للمصطلح الصوفي، و”معجم الكلمات الصوفية” لأحمد النقشبندي الخالدي، و”معجم ألفاظ الصوفية” لحسن الشرقاوي وغيرها كثير.
فنحن إذن إزاء جنسٍ معجمي متخصص في فن التصوّف وكلماته، بل إزاءَ ظاهرة معرفيّة ليس لها نظير في تاريخ هذا الحقل من حيث وفرة ما أنتج فيه ومن حيث الهُموم التشريعية والمعرفية التي تحرّكها وتغذيها: فالصوفية يصنعون معاجِمَهم ليشرّعوا لوجودهم ويجعلوا من مذهبهم عِلماً قائم الذات. فهاجسهم الأول ابستيمولوجي، أبعد من مجرّد صناعة “معجم”، لأنه يرمي إلى إدماج التصوُّف ضمن فروع الحكمة في شجرة العلوم التي تتوفّر على شروطها التأسيسية كوجود الموضوع والمصطلحات والمنهج… فمعاجم الصوفية الأولى جزءٌ من تراثهم النظري وليست تتمّة له، بل هي خطابٌ تأسيسي يثبت علميَّة التصوُّف ويبنيها. والغاية من وراء هذه الشروح والحدود التي يلحقونها بكتبهم، بعد التأريخ لشخصياتهم وعرض معارفهم، هي بيان عِلمية التصوف وشرعيّته.
ولذلك غلبت على هذه المعاجم، وخصوصاً القديمة منها، المفاهيم الفلسفية التي صيغت بشكل شديد التجريد، يَفقد معها المعجم، أحياناً، وظيفته التوضيحية حتى يَحتاج الشرحُ إلى شرحٍ. كما تغلب فيها الإحالات وتتقاطع إلى درجة يصير معها المفهوم رمزياً متفرّعاً يجري على نحو استعاري مثل صورة “شجرة الأكوان” و”فصوص الحكم” و”الإنسان الكامل” وغيرها.
وهذا ما يُفضي بدوره إلى ضمور المنهج العلمي في التعريف، حتى كأنَّ مُحرّري هذه المداخل يقعون تحت إسَار المفاهيم التي يشرحونها فَيوردونها دون تفكيك ولا عودٍ إلى جذورها التاريخية ونصوصها الأصلية، تشدّهم نصاعة الأسلوب وتبهرهم كثافة الرمز. ولما كان بعض واضعي هذه المعاجم من الصوفية أنفسهم خفّت المسافة النقدية بينهم وبين مواضيعهم، فيكتبونها بأسلوبٍ بلاغي مثقل بالسجع والجناس والمحسنات. فيرد المفهوم صيغةً جاهزة، في قالب حِكمي مُتكلّف.
وتبقى المعضلة المعجمية في طبيعة المفاهيم الصوفية ذاتها وفي صياغتها. فعلى عكس مفاهيم العلوم الأخرى، تشفُّ التصّورات الصوفية عن مضمونَ تجربة ذوقيّة، يَعيشها “المريد” في سفره الروحاني من أجل تحقيق الوصال عبر مراحل ثلاثٍ هي: التخلّي والتحلّي والتجلّي. وهو ما يؤكد أنَّ العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة عرفية ترجع إلى خصوصية هذه التجربة الداخلية.
وهكذا، فمعاجم الصوفية معاجم مختصة بالضرورة، نظرياً وذوقياً، تُباين غَيرَها من القواميس العامة من حيث تركيزها على أحوالٍ لا تدرك بالأقوال، وكأنها بذلك تحمل بذرة عدم كفايتها، فهي تضيء لغوياً على المفردة دون أن تشرح ما فيها من هيام الروح وعذاباتها.