معاجم القانون العربية.. فكر تتجاذبه مرجعيتان، على الرغم من ازدهار الدراسات القانونيّة في العالم العربيّ منذ السنوات الأولى للقرن العشرين وانتشار المعاهد والكليّات المتخصصة في تدريس الحقوق، فإنّ ظهور المعاجم المختصّة بهذا الفرع المعرفيّ تأخّر لأكثر من قرنٍ. وهذه مفارقة لا بدّ من تفكيك أطرافها؛ فقد كان المجال القانونيّ، بالمعنى الذي نعرفه اليومَ، مُغطّىً بِالفقه الإسلاميّ بدوائره الثلاث: العبادات والمعاملات والعقوبات. ثمّ بالتدريج، ومنذ القرن التاسع عشر، خرجت هذه الدوائر من هيمنة الرؤية الدينيّة ومُصطلحاتها الفقهيّة، لتدخل حيّز النظر الوضعيّ البشري، وتظهر كلمات مُترجمة عن المَجلّات الغربيّة تعبّر عن القيم بشكلٍ معاصِرٍ.
وقد كان رفاعة الطّهطاوي من أول من فَطن إلى الفرق الشاسع بين تصوّرات الفقه وما تقوم عليه من مبادئ أصوليّة، وبين القانون بمعناه الوضعي. يقول: “ما سُمّيَ عندنا بعلم أصول الفقه يَسع ما يشبهُ عندهم بالحقوق الطبيعيّة أو النواميس الفِطريّة، وهي قواعد عقليّة تحسيناً وتقبيحاً يؤسّسون عليها أحكامهم المَدنية”، (المرشد المعين: 492). وهو أوّل مَن تَرجم مجلات codes نابليون الفرنسية الثلاث إلى العربيّة، حيث كانت أعماله بداية إنتاج المُصطلح القانوني الحديث، رغم ما فيها من إسقاطاتٍ وتعثّرات.
ولئن كثرت المعاجم التي جَمعت مصطلحات الفقه مثل كتاب “المُغْرِب في تَرتيب المُعْرب” للمُطرَّزي (ت. 1213) و”الكليّات” للكَفوي (1619 – 1686)، فإنّ الاعتناء بمفردات القانون الحديثة لم يبدأ إلا منذ عقود قليلة، حيث “أطلق مجمع اللغة العربية” في مصر أوّل “معجم للقانون” بفروعه العديدة، وأوكل هذه المهمّة إلى القاضي عبد العزيز فهمي (1870 – 1951)، رئيس محكمة النقض، ومُترجم “مُدوّنَة جوستنيان” في الفقه الروماني عن نصّها الفرنسي. فَشَرع في هذه المهمّة سنة 1940، إلّا أنه لم يُكمِلها.
كثير من تلك المعاجم ليس متخصّصاً بشكل تام ودقيق
وتحمّل المسؤولية بَعده أحمد عز الدّين عبد الله، عميد كلية الحقوق في عَين شمس، وهو الذي واصل تحرير المواد وعَرضها علميّاً طوال عشر سنواتٍ. وقد وُضعَت أمام كلّ مدخلٍ الترجمة الفرنسية، باعتبار أنّ سائر المواد القانونيّة الحديثة ليس لها مقابل في التراث الفقهي، بل اقتُبست من الدوائر الفرنسيّة، كما وُضعت لها المقابلات الإنكليزيّة. وقد بَلغ عدد المصطلحات نحو ثمانية آلاف، مرتّبة حسب الترتيب الهجائي في كلّ فرع، وقد قُفّيت سائر الفروع بفهرس ذي مَدخل هجائي فرنسي، ولم يصدر الكتاب إلا سنة 1999.
وما لبث أن ازدهرت هذه المعاجم مثل الفِطريات، وأصبحت أكثر تخصّصاً، ومن بينها “معجم المصطلحات القانونيّة” (2001)، الذي وضعه م. ط. يَعقوبي (الجزائر)، و”القاموس القانوني الجديد” (2006) بقلم إبراهيم نجّار، و”قاموس المصطلحات القانونية” (2011) لفيليب أبي فاضل، “والقاموس القانوني الثلاثي” لموريس نخلة وصلاح مطر وروجي البعلبكي. وظهرت معاجم مختصّة بفرع بعينه مثل كتاب رافع بن عاشور “ألفاظ وعبارات الدستور التونسي” (2014)، وآخرها “المُعجم القانونى للعقود”، من إصدارات “الهيئة المصرية العامة للكتاب” (كانون الثاني/ ديسمبر 2021)، وهو إنكليزي – عربي، من إعداد نهى حامد محمود، وغيرها كثير.
من جهة أولى، تتميّز هذه المعاجم بعدم تخصّصها بشكل تام ودقيق، رغم ادّعائها الانتماء إلى مَجال القانون. فعندما نحقّق النّظر في طبيعة المداخل، نجد أنها تتشابك مع المجالات الأُخرى، مثل الاقتصاد والسّياسة وحتى البيئة، وذلك بسبب الخلل البنيوي في اختيار المداخل وتحديد المدوّنة الدقيقة، وهو العمل القبْلي ضمن سبع خطوات ضروريّة لبناء مدوّنة المفردات الفنّية، كانت الباحثة الكندية كلود لوم Claude l’Homme قد حدّدتها كشرطٍ للقيام بعمل مصطلحي دقيق، جُلُّه لم يُنهض به في الحقل القانونيّ العربي. وهو ما يؤكد شبه غياب ما يُسمى البروتوكول التعريفي الذي يضبط عملية التعريف ويحدّدها وفق منهج دقيق ومطّرد، فما يقدّم من شروح في هذه القواميس المتداولة لا يتبع خطّة واحدة ولا يمكن التمييز فيها بين الإضاءة الألسنية والمضمون المتخصّص.
لا نميّز فيها بين الإضاءة الألسنية والمضمون المتخصّص
ومن جهة ثانية، تواجه هذه المعاجم معضلة الاختلافات الجهويّة القُطرية، فالبلدان العربية لا تُسمّي المقولات القانونية بذات الاسم. فعلى سبيل المثال، للتعبير عن مفهوم Outrage يستعمل المشرّع التونسي صورة: “هَضم الجانب” والقانون الكويتي “الإهانة”، والمصري “الاعتداء”، الأمر الذي يجعل من مهام المعاجم القانونيّة التنبيه إلى هذه الاختلافات الجهويّة والتنصيص عليها وربما محاولة تحليلها وفق معطيات من التاريخ السياسي أو القانوني الخاص بكل قُطر من الأقطار العربيّة. ولا يزال هذا المشكل الكبير قائماً ضمن قضيّة توحيد المصطلحات القانونيّة التي تجهد المنظمات البين-عَربية في إنجازه، ولكنّ المعاجم الحالية لا تشير إلى هذه الفروقات وقد ترسخ خياراً ترجمياً أو اصطلاحيّاً على حساب خيارات أخرى.
ولا ينهض أغلب هذه المعاجم بوظيفته الأصلية التي هي التعريف بمضمون المصطلحات وتوضيح مغزاها التقني، فغالباً ما تقتصر على ذكر المقابلات الأجنبية دون شَرح ما فيها من مضامين، وهو ما لا يساعد القارئ، بل قد لا يزيد من ارتباكه، إمّا بحكم جهله بالمقابل الأجنبي، أو بسبب مستوى التقنية والتجريد فيه. وتكاد تغيب الإضاءات التأثيلية (étymologique) والصّرفية والدلالية في غمرة هذا العَرض المفهومي.
وحين تُترجم هذه المصطلحات عن اللغات الأجنبية لا يتأكّد أصحابها من وجود مقابلٍ، أصلاً، لها في القوانين العربية، وإن كانت هذه المقابلات موجودة، فهل تفيد ذات المضمون التقني المتخصّص.
والمأمول أن تتفرّغ مَجموعة من الباحثين لإنجاز معجم نقدي للمصطلح القانوني العربيّ، لا يقوم فقط على الكشف عن الجذور الأولى لهذه المفردات، بل على بيان تطوراتها من دوائر الفقه التقليدي الذي نشأت فيها، نحو النصوص القانونية الوضعية، وأسباب هذا التوسّع المفهومي، ثم مظاهر توظيفها الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى إبراز دور الفاعلين الاجتماعيين في إضافة بعض الشحن المفهومية واجتراحها بما يتلاءم مع توجهاتهم الأيديولوجية.
وجديرٌ أن يتضمّن هذا المعجم المصطلحات المحذوفة والمسكوت عنها بعد أن هجرها الاستعمال وخرجت عن التداول، وأن يُعلّل كلّ تقادم بأسبابٍ تعود إلى خيارات المجتمعات مثل سقوط الأسماء الدالّة على الحدود والعقوبات الجسديّة من أغلب التشريعات العربيّة.
ولا شك في أنّ هذه القضايا رغم تقنيتها تندرج ضمن التاريخ الثقافي للضّاد، باعتبار أنّ المصطلح القانوني لا يخرج عن كونه نتاجاً لتفاعل نصوص الفلسفة والدين والأخلاق مع الحيويّات الاجتماعيّة، وهي التي تجعل منه نصّاً مفتوحاً على أوساطه السياسيّة والاقتصادية وعاكساً لما يطرأ فيها من صراعاتٍ وتنافسٍ على اكتساب الرأسمال الرمزي، ولا سيما أنّ هذا التنافس ينصبّ على مدى توظيف المصادر الدينيّة الإسلامية من عدمها، أو بالعكس استلهام القوانين الوضعيّة والاستناد إلى فلسفتها. وما نراه في معاجم القانون ليس إلّا صورة عن واقعٍ يرزح تحت نير هذا السجال منذ القرن التاسع عشر.