نِهاد الموسى (1942 – 2022) مَثَلٌ آخر عن هؤلاء المثقّفين الكِبار الذين لا يكتَشفهم القارئ العربيّ إلا بَعد ارتحالهم، مع أنّهم مَلأوا مشهدَ التّفكير اللغويّ لعُقود طويلةٍ. ففي سبعينيات القَرن المنصرم، حين كان جلُّ اللّغويّين العَرب مُكبَّلين في مُصنّفات التّراث النّحويّ، لا يأبهون لما يَطرأ على ساحة الألسنيّة من نظريّات غيَّرت النّموذج المعرفيّ في دَرس اللغات، وحين كان بعضُهم الآخر مقتصرًا على تَرجمة هذا الذي طَرَأ مُنبهرًا بمبادئهِ، قاطِعًا مع ما كَتَبَه النّحاة القدامى، أرسى نهاد الموسى ما يشبه المَنهج المُتوازن في التّحليل اللّغوي، منهجًا يقوم على إظهار مدى التكامل بين الأنظار اللغويّة، قديمِها وحديثِها، في فَهم ظواهر اللسان العربيّ ومعضلاتِه، مثل الازدواجيّة والتركيب والتّوليد.
ولذلك خاض في تآليف النّحاة القدامى ونفض الغُبار عمّا تضمّنته من نظريّات حول العمل الإعرابي والوظائف الشكليّة واشتقاق الكلمات عبر التصريف والنحت والتوليد، كما تضلّع في نظريّات التّوصيف الألسني المعاصر، ولا سيما في اتجاهاته الأميركيّة، كالتوليديّة والتداوليّة، التي تبلورت في جامعات الولايات المتحدة. ولعلّه بهذا الخطّ، كان قد اجترحَ منزعًا مبتكرًا في درس التصوّرات التي ترسمها الألسنيات الغربيّة بعد أن تَشبّع من نُصوصها، واستقْرى مواردَ العربيّة في أعْمال كبار ممثليها مثل بلومفيلد (1887 – 1949) وسابير (1884 – 1939) وهاريس (1909 – 1992) وهو ما يَفتح لَه أفقًا جديدًا نَفَذ عبْره من ضيق تَقليد المقولات التي انبثقت من دراسة لُغات أجنبيّة إلى رحابة الحوار بين خطابات التوصيف اللغوي.
ولذلك، تخصّصَ صاحب “قضيّة التحوّل إلى الفصحى” (1987) في معضلة الازدواج اللغوي diglossie وهو واقعُ تَعايُشِ الفصحى مع العديد من اللّهجات الإقليميّة، تعايش تَحكمُه علاقة تفاضليّة بين مستويات اللغة هذه، وهو ما يُولّد عددًا من الصعوبات في التدريس والتعبير والتفكير، طارحًا في أثناء ذلك بعض الحلول من أجل جَسر الشقّة بين سِجلات اللغة.
ولعل صاحب “العربية: نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبيّة” (2000) كان من الرّواد الذين أدمجوا أنساق اللغة العربيّة في موارد الحَوسبة والتعامل الآليّ معها من أجل الكشف عن القوانين الدقيقة التي تَحكم أنظمتها الداخليّة، الصّوتيّة والتركيبيّة، حيث تجاوَز بالدّرس اللغوي طورَ الوَصف العامّ إلى دقّة الإحصاء الرّياضي، الذي تضمّنته لوغاريتمات متطوّرة، مما أتاحَ تجويد النّظر في قوانين اللغة وتراكيبها ومفرداتها والعلاقات المنعقدة بينها. في ذلك الزمن، كانت هذه الأبحاث، التي تبدو اليوم مألوفة، ابتكاريّة وثوريّة، شكّك في جدواها الكثيرون وها هي تؤتي ثمارَها بعد أن طوّعت الضاد نفسها لسائر البرمجيات الحديثة وصارت من أكثرها استجابة لاقتضاءاتها التطبيقيّة والعرفانيّة.
ولا ننسى أيضًا أنّ نهاد الموسى محّض الكثير من أعماله لمناهج تدريس اللغة العربيّة ولا سيّما في “الجامعة الأردنيّة”، التي ارتبط اسمُه باسمها طيلة عقودٍ، حيث اجتهد في وضع المقرَّرات على ضوء المبادئ الألسنيّة المعاصرة تيسيرًا لقواعد الضاد، وهي معقّدةٌ وَعْرَة، وتغييرًا لطرق تعلّمها التي أضحت عقيمةً إثر الثّورات البيداغوجيّة الأخيرة، وفي ظلّ هجمة اللغات الأجنبيّة وخاصّة الإنكليزيّة، وفي ظل الدّعوة إلى اعتماد العاميّات الجهويّة، في عدوانٍ ثنائيّ على الفصحى وتشكيكٍ في قدرتها على أن تكون مقوّم الأمّة الرّئيس والرّابط الأوثق لأفرادها، بعد أن فشلت مشاريع الوَحدة السياسيّة.
وقد استفادت من خبراته النظريّة والعمليّة التي اكتسبها من تركيم الأبحاث طيلة عقودٍ أكبرُ مراكز تعليم العربيّة للناطقين بغيرها في دولٍ نائية كالصين وأميركا، فضلاً عن مَعاهدها في سائر أقطار الوطن العربيّ حيث اشتغل لسنواتٍ في السّعوديّة والكويت والإمارات وغيرها، وكذلك عضويته في المجلس العلمي لـ”معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”. وقد دلّل بهذا العمل الدؤوب على مدى الارتباط بين الدّرس النّظريّ والتوظيف العمليّ في اكتساب الكفاءات اللغويّة وتعلّم موادّها من مفردات وتراكيب وأساليب.
كما تناول الموسى قضايا الضاد في اشتباكها بالمعيش اليوميّ في عالمنا العربيّ المعاصر، بوصفها لغةَ الخِطاب والصّحافة والأوساط المهنية، يعتريها الخَطأ والتطوّر، ويطاولها الهِجران والتقادم، وفي ذات الآن هي لغة الوجدان والاندهاش، يربطها العربي برمزية مقدَّسة ويجعلها عنوانًا للهويّة، رغم مآخذَ عديدة على نظامها الإملائي ورغم ازدواجية سجلّاتها وتشعّب قواعدها، وكلّ هذه الظواهر أجاد الباحث الفلسطيني – الأردني في توصيفها والإحاطة بأسبابها ليس من منطلق معياري، بل بأدوات دقيقة سمحت له بالتطرّق إلى حركة العربية حين تعانق التاريخ الحديث بكلّ أزماته وانعطافاته الذهنيّة والتقنيّة الكبرى التي هزّت ثباتَ نُظُمِها.
وقد كان الموسى، وهو يمارس التفكير في هذه الظواهر المتشعّبة، يَجترح المُصطلحات العربية المقابلة للمفاهيم الإجرائية الغربية، ولعلّ بعضَ وحدات هذا الرصيد الاصطلاحي هي من بنات أفكاره ومُولّدات عقله وقلمه، وعسى أن تُجمع يومًا في “معجم مرتّب” حتّى لا يُهضم فَضل الرّجل فيما ابتَكره من المفاهيم وما اشتقّه من مصطلحات الألسنية العربية التي جاوزت المئات.
وفي الجملة، لم يترك نهاد الموسى قضية من قضايا الضاد، في طورها المعاصر أو عهودها القديمة، إلا وتَناولها وَفق منظور ثنائي: المُدوّنة النحويّة القديمة التي تنطوي على نظريات معمّقة، عَمِل على نَفض الغبار عنها لبَيان اتساقها رغم اختلافات مدارسها وتيّاراتها، والنظريّات الألسنيّة الغربية التي تتضمن آليات التوصيف والفحص النّقدي. وقد دلّل من خلال هذه المُواءَمة السمحة أنْ لا تعارضَ بين أنظار النُّحاة القدامى وأنظار الألسنيين المُحدَثين، إذ رغم اختلاف مناهج النظر والتقييم توصّلوا، في العديد من النقاط، إلى نفس النتائج.
في هذه المسيرة الأكاديمية، تبدو حقولُ التّوصيف اللغوي للضاد بمثابة أرخبيل مترامي الأطراف، مُتشعّب الأكمات والأدغال. يتألّف من جزائر مُتقاربة، هي علوم الصرف والنحو والدلالة والبلاغة والأسلوب، وقد أجاد نهاد الموسى في ارتيادها واستكشافها، الجزيرةَ تلوَ الأُخرى، يَستطلع امتداداتها ويستجلي أعماقَها حتى يتبيّن الخيط الناظم لظواهرها المنفصلة، تَقوده في ذلك خرائط إشكاليّة حول علاقات هذه الجزائر بمسائل السياسة والتاريخ والآخر، وكأنّما، وهو الفلسطيني الأصيل الذي اقتُلُع من أرضه ببلدة العبّاسية في مدينة يافا، قد اتّخذ من الضاد وطنًا، يستكشف مساربَه ويَكشِفُها لغيره من المُرتادين. وهاهم يُواصلون السَّيرَ في الأرخبيل على ضوء نبوءاته وأنظاره الفسيحة.