من بَين الانتِقادات التي طالما وَجّهها محمد أركون (1928 – 2010) إلى الاستشراق التقليديّ، برودُهُ وعَدم انخراطه في قضايا العالَم الإسلاميّ ودراسةُ تاريخه ولُغاتِه كما لو كانت مواضيعَ ميّتة. لم أكن أفهم هذا الانتقادَ، بل وكنتُ أتحفّظ عليه نَظرًا إلى أنّ أولى فَضائل البحث العلميّ هي المسافة في التعاطي مع الموضوع. ولم أعِ هذه النقطة حتى تعاملتُ، ولسنينَ طويلة، مع أعمال المستشرق بولندي الأصل ألبير كازيمرسكي (1808 – 1887) الذي تَرجم القرآنَ إلى الفرنسيّة فَرَاج عملُه طيلة القرن التاسع عشر وطُبع عديدَ المرّات واغترف من دقائقه سائرُ المُستعربين.
بدأ الرّجل تعليمَه في مدرسة ابتدائيّة بقرية كَرشو البولنديّة، حيث أتقن الفرنسيّة والألمانية واللاتينيّة والإنكليزيّة، وبعدها انتقلَ إلى الجامعة وتحصّل على شهادة الماجستير في العلوم القانونيّة ثمّ اشتغلَ مُحامياً. وما لبث أن هاجَرَ إلى باريس سنة 1833، ليتضَلّع في العربيّة لدى أكبر المستشرقين الذين كانوا يُدرِّسونَ آنذاك في “معهد اللغات الشرقيّة”، ومن أشهرهم سيلفستر دو ساسي (1758 – 1838).
وبعد إتمام عُدّته من علوم الضاد، أصدر كازيمرسكي معجماً عربيّاً – فرنسيّاً، ظَهر جزؤه الأوّل سنة 1846 والثاني سنة 1850. إلّا أنَّه لم يُمهّدْ لمُعجمه هذا بأيّ تقديم، ممّا ضاعف الأسرار التي تَكتَنف ظروفَ تأليفه. فقد جَرت العادة أن يصوغ كتّابُ المَعاجم مُقدّماتٍ يُبيّنون فيها مناهجَهم في جمع مَوارد اللغة ومَبادئ ترتيبها ويَذكرون مصادرَهم وظروف عملهم. صمتٌ مطبقٌ. التمهيد الوحيد صفحةٌ يتيمة أوردَ فيها الرّموز التي استخدمها في ثنايا كلّ تَعريف، مثل حرف V لكلمة “فعل”. على أنَّ نظام الاختصار أداة منهجية مفيدة في تقديم المادة التعريفيّة دون حَشو أو تكرار.
أعملَ عقلاً رياضياً صارماً على متن الضاد قديماً وحديثاً
وأمّا المتن الذي استَحضره كازيمرسكي، فهو العربية الكلاسيكيّة أساساً، ثم المعاصِرة، أيْ: الكلمات القليلة التي انضافتْ، منتصفَ القرن التاسعَ عشرَ، إلى الضاد، وهي من القلّة بحيث خَصّصَ لها رمز Mod. تلخيصًا لـModerne أي: حديثة. وعلى سبيل المثال، عندما شرح مفردة: “طَبْع”، ذَكرَ مَعناها الكلاسيكي: “صُنع السيوف”، ثم أضاف مَعناها الجديد: طَبع الأوراق والكُتب، مما يؤكّد أنّ الرّجل اعتمد على ما كان يُعاينه في تاريخه. ومن المفيد في دَرس التوليد اللغوي استخراج كل التواردات التي ظهرَ فيها هذا الرمز، Mod، من أجل الوقوف على ما اعتبره الكاتب مُوَلّداً مستحدَثاً.
هذا، وقد بنى كازيمرسكي مُعجَمه على ثنائيّة الفصيح والعامّي، الذي أطلق عليه، مثل سائر مُعاصريه، اسم: Vulgaire، وتعني المفردة اليوم: السّوقي أو المُبتَذَل، وذلك في استحضارٍ لمفهوم “الازدواج اللغوي” (Diglossie) الذي يدلّ على وجود تراتبيّة هَرميَّة بين الفصيح والمَحكيّ، واعتبار هذا الأخير سجلاًّ ناقصاً، بل ومنحرفاً عن الأول. فكان يُودع كلمات من مَحكيّات المَغرب العربيّ، ولا سيّما الجزائر التي استَعمرها الفرنسيون بدء من 1830.
وكان غالباً ما يلجأ إلى الشّرح الجُمْلي من أجْل إيصال المَعنى للقارئ الفرنسيّ، عبر استخدام آلية Périphrase، ولا سيّما في مقولات الثقافة البدويّة العتيقة، التي لا مُقابل لها في اللغات الأوروبيّة، ولا تتوفّر على كلمة وحيدة لنقلها، فكانَ يُحرّر مَحلّها جملة كاملة ليشرح المعنى، وهو منهج سائدٌ طيلة الكتاب. ومن طرائفه أنّه كان يضيف بين مُعقّفين عبارة Se dit de، أي: يُقال عن… حتى يوضح ما صَدَقَ المعنى وما يدخُلُ ضمنه، فيحدّد ما تنصرف إليه كلُّ كلمة والمُرادَ منها عاقلاً أو غير عاقل. وهذا ما فعله مثلاً مع مادّة “ضبح”، التي تُطلق على النّار والإنسان والخَيل.
وأجاد الرّجل في نقل الأمثال العربية القديمة وتَرجمتها إلى لسان موليير، محاولاً إيجادَ معادلٍ دقيق لها. وكما هو معلومٌ، فتَرجمة الأمثال والصيَغ المسكوكة من أعقد المهام لما تَتَضَمَّنه من حِكَمٍ تعكس المَخزون الشعبيٍّ والثقافيٍّ. كما تَرجم، عندما يَسمح السياق، الآيات القرآنية العديدة التي كان اللغويون القدامى يرصّعون بها أعمالهم كشَواهد. ولا نستبعد هنا ــ وهذه فرضيّة نَضعها بين أيدي الباحثين لأوّل مرة ــ أنَّ الترجمة الكاملة للقرآن التي أنجزها كازيمرسكي سنة 1860، والتي أعاد طبعها محمد أركون ثم جاكلين الشابّي، تَضرب بجذورها العميقة في هذا المعجم الذي احتوى ترجمَتَه لآياتٍ مُتفرّقة، ولعلّه فكّر بعدها بإنجاز ترجمة شاملة.
ميّز الكلمات العربية المستحدثة والمولّدة عن الأصيلة
ويبقى سِرّان لم يُكشفا بعدُ: كيف تمكّن الرّجل من إتقان هذا الكمّ الهائل من المعارف في اللسان العربي في فترة وجيزةٍ، رغم أنّ اختصاصه الأول كان في اللغة الفارسيّة، حيث عَمل مُترجماً عنها في وزارة الخارجية الفرنسية، وأدّى زيارات دبلوماسية إلى إيران، فضلاً عن تَرجمته لنصوصٍ أدبية منها. ومن جهة ثانية، لا ندري إن كان قد انطلق من تَرجمة معجم عربي – عربي مثل “القاموس المحيط” للفيروزآبادي، أم أنه اعتمد على ذاته. وقد أثار الباحث عبد الحميد دريرة، في إحدى مقالاته، الشكوك حول إمكانية إنجاز مثل هذا العمل النفيس، وعبّر عن فرضيةٍ مفادها أنّ كازيمرسكي قام بترجمة المعجم اللاتيني العربي الذي صاغه جورج فريتاغ (1788 – 1861). إلّا أنّ المقارنة بينهما لا تدلّ على هذا المسار، بل لعلّها تَنفيه. وفي ظل معلوماتنا الراهنة، لا يسعنا سوى أن نقدّم فرضيّات ونمشي على البَيْض.
هكذا، أعمل كازيمرسكي عقلاً رياضيّاً صارماً، ذا خلفيّة قانونيّة في الدقّة والتحرير، على متن الضاد القديم منها والمعاصر، فَرتّبه ترتيباً مُحكماً، لا يغادر منه شاردةً ولا واردة، فكانَ يعود إلى الجذر الثلاثي أو الرّباعيّ للمفردات ثم يَعرض الأفعال التي تتدفق منها عبر منطق الاشتقاق ومعادلاته، حسب الصيغ العَشر، ثم يورد ما يأتلف من الأسماء مُقدّماً المقابلَ الفرنسي الدقيق، وإن أعوزه ذلك مرّ إلى شرحٍ وجيزٍ يَكشف به النقاب عن الدلالة، وكان يتوّج المَدخل المدروس بذكر الآياتٍ والأحاديث والصيغ التي جَرت مَجرى الأمثال، ولا يغفل أسماء القبائل والأعلام ممن لهم صيتٌ في الحضارة الإسلامية القديمة. وقد يضيف مفردات من المحكيات العربيّة، وهو ما جعل عمله نصّاً جامعاً لما انتَثَر من معاني الضاد، مُرتبةً حسب الصيغ والأوزان، وكل معنًى مرقّم بشكل صارم.
واللافت أن كازيمرسكي التَزَم بخطته تلك، فلم يتخلّ عنها ولو مرّة في تحريرٍ أشبهَ بالعرض الرياضي. ولذلك، ظلّ هذا المعجم أداةَ المُستعربينَ الناطقين بالفرنسية يعتمدونه منذ أكثر من قرن ونصفٍ القرن دون أن يغادره فَتاء الدقّة ولا نَضارة الرشاقة الأسلوبية، مع أنه أصْلح لدرس نصوص الفترة الكلاسيكية. ويظلّ مع ذلك السؤال مَطروحاً: لماذا لجأ إلى الفرنسية، التي تَعلّمها في شبابه، دون الألمانية أو الإنكليزية أو حتى البولندية، لغته الأم؟ لعله إن فَعَل ذلك، لم يكن ليُعرَف أبداً ولا ليحتلّ هذه المكانة في علوم الاستشراق.