إدوارد غاسلان.. من السياحة الاستعمارية إلى الاشتغال المعجمي
في ستّينيات القرن التاسع عشر، وبعد احتلال فرنسا للجزائر ونشاطها القنصليّ والتجاري لبَسط نفوذها على تونس والمغرب، ازدهرت أسفار فئاتٍ من المجتمع الفرنسيّ نحو هذه البُلدان. تتألّف هذه الفئات من عساكر الاحتلال، إلى جانب لفيفٍ من التجّار و”المُعمّرين”، كما كان يُطلق عليهم آنذاك، واسمُهم الحقيقي: “مستعمرون”، وبعض المنحرفين الذين ضاقت بهم بلادهم، فلجأوا إلى تونس فرارًا من العَدالة. وكان لا بدّ لهؤلاء من “دليل سياحيّ” يعرّفهم بخصائص البلد الجغرافية والعمرانيّة ويهديهم إلى عاداته وأنظمته، رغم أنّ مفهوم “الدليل”، لم يظهر وقتها بشكل ناضج.
تصدّى لهذه المهمة إدوارد غاسلان (1840 – 1900)، الذي وُلد بمدينة قسنطينة الجزائرية. وكان قد تعلّم العربيّة هناك حتى أتقنها، وهو ما مَكّنه من الاضطلاع بوظيفة ما كان يُسمّى آنذاك: “دَرَغْمان”، والكلمة تَحريف لمفردة: “تُرجمان”، أي: مُترجم لدى القنصليّة الفرنسيّة بتونس وقبلها بالجَزائر. أنهى غاسلان مسيرتَه قُنْصُلًا وعضوًا بالجمعيّة الآسيويّة. كما اشترك، سنة 1881، في “المهمة العلميّة” بتونس، رفقة العالم رينيه كانات (1852 – 1937)، المتخصّص في اللغات القديمة وفكّ شيفراتها. كانت المهمّة تتمثّل في استكشاف كتابات عربيّة ولاتينيّة، رُسمت على آثارٍ اكتشفوها أيّامها في مدينة القيروان.
ويُذكر لغاسلان هذا الموقف الإيجابيّ الذي وَقَفه، نهايةَ حياته، عندما شجّع حكومة الاستعمار على السماح للمسلمين الجزائريين بالحَجّ، كما أصدر قبيْل وفاته، سنة 1899، جريدةً أسبوعيّة حكوميّة، أطلق عليها اسم: “النّصيح”، وكانت مقالاتها تُحرَّر بالدّارجة الجزائريّة. وتوفيّ بالجزائر العاصمة.
كتب دليلاً سياحياً تضمّن ملاحظاتٍ حول طبائع العيش بتونس
في سنة 1869، أصدر غاسلان كتابًا وصفيًّا عنوانُه: “الدليل الموجز للأجنبي في تونس”، وهو بمثابة عرضٍ لأحوال الإيالة التونسيّة، تحت حكم الصّادق باي (1813 – 1883)، وتَطرُّق لنظامها السياسيّ والقضائيّ والمجتمعيّ وبعض جوانب حياتها الاقتصاديّة، التي كانت وقتَها صعبةً بسبب الدّيون الذي أثقلت كاهل الدولة. وفي هذا “الدليل”، وَصَفَ بأسلوبه الواضح كلّ معالم المدن الكبرى وأحيائِها وعدد سكّانها، فقد كانت العاصمة تعدّ مئة ألف ساكنٍ من المسلمين واليهود والمسيحييّن، كما تَطرّق إلى ما فيها من المرافق والمَعالم.
وقد دَوَّن هذا المترجم الفرنسي العادات والتقاليد وأنماط اللباس والطعام والمسارح والطرقات، وهو ما يجعل منه وثيقة تاريخيّة ليست نادرة، ولكنّها طريفة لما تتضمّنه من ملاحظات وتَقييدات فردية، مثلًا: حول حياة المساجين داخل سجن “الكراكة” بحلق الوادي، وطرق تنفيذ حكم الإعدام، وأخلاق النساء ولباسهنّ، وعدم تورّع الرجال عن معاقرة الخمور، وغيرها من ظواهر الحركة الاجتماعيّة. كما أنه أثبت العديد من المعطيات التي تندرج ضمن المقاربة الإثنوغرافية، في بداياتها الأولى، ونقل لنا ما كان سائدًا في المدن التونسية من العبارات المحكيّة وسجلّات القول المستخدمة. وقد حاولنا استقصاء هذه العبارات والكلمات فوجدنا أنَّ جلها لا يزال يُستخدم اليوم في الدارجة التونسيّة.
إلى جانب ذلك، ألّف غاسلان معجمًا من جزأيْن تضمّنا آلاف المداخل التي رُتّبت فيه حَسب الألفباء الفرنسي (وليس العربي)، وقد أوْرَد فيه العديد من العبارات الجاهزة والتعالقات النحويّة (الأفعال مع الحروف التي تناسبها)، في اللسان الفرنسيّ مع ذِكر مقابلها العربي، وهو ما جعل المداخل طويلة نسبيًّا ومثقلة بالتفاصيل التي تهمّ المستعربين، وهم الجمهور الذين وَجّه لهم هذا العمل، ولا تعني مستشيري المُعجم من المثقّفين أو المتعلّمين العَرب.
وقد استهل غاسلان معجَمه هذا بمقدمة عن مبادئ النحو العربي وتصريف الأفعال، مستفيدًا مما جاء لدى العالِم سيلفستر دي ساسي (1782 – 1840)، مع تفصيل جداول الأفعال المعتلّة والمهموزة والمضاعفة. وقد حَرص بشيءٍ من الهَوَس على ذِكر “المَحكيّات الإقليمية”، جاهداً في وضع ما تناهى إليه منها من المشرق والمغرب، مع تركيزه على لهجتي الجزائر وتونس اللتيْن كان يتقنهما.
وقد ذكر غاسلان، في الصفحة الأولى من معجمه أنّه سيثبت فيه المصطلحات الفرنسيّة الخاصّة بالعلوم والفنون والصنائع، مع نَسخ مقابلاتها العربية بالحرف اللاتيني، حتى يسهل نطقها على المتعلّمين، طبعًا بعد تَرجمتها إلى العربية وذِكر بَعض الفوارق الجهويّة الخاصّة بالبلدان الإسلامية، وإعراب الكلمات، وتحديد جنس المفردة وجمعها والمصادر وأسماء الزمان والمكان. كما وعد بأنه سيذكر معاني الكلمات حسب السياقات والحقول الدلاليّة، مع ذكر شواهد مأخوذة ممّا سمّاه “العربية النحويّة”، أي: الفصحى، ومن القرآن، إلى جانب مختارات من مقدّمة ابن خلدون وأعمال ابن بطوطة وأبي الفداء إسماعيل. وأخيراً، ذكر الفوارق الجهويّة بين بلدان المشرق والمغرب، مع التنصيص على الجذر الإيتيمولوجي للكلمات العربية والأجنبيّة.
يكمّل معجمُه مشاريع بدأتها المعاجم التي وُضعت قبل النهضة
إلّا أنّه، ورغم طول معجمه، لم يتمكّن من الوفاء بهذا “البروتوكول” التعريفيّ، الذي حدّده لنفسه بنفسه. كما أنه بناه على جدلية الفصيح والدارج، دون تدقيقٍ في طبيعة سِجلّ كل واحد منهما، فَهما متداخلان متشابكان. إلّا أنّ هذا العمل لم يتواصل ولم يُحيَّن بعد وفاة صاحبه، وهو ما جعل الباحث اللبناني أحمد بيضون يقول في دراسة له عن معاجم القرن الماضي: “وأمّا غَاسلان، فلا نعرف له عقبًا”.
هذا المعجم كنزٌ مَجهول، يتضمّن لطائف عديدة عن الضاد واستخداماتها المعاصرة، التي تكمّل ما حوته المعاجم القديمة، إلّا أن عملًا تحليليًّا لا بد أن يُجرى على مختلف موادّه الزاخرة، حتى تعود تلك المعلومات الدلاليّة إلى الضوء. وقد يكون من المفيد العودُ إلى مثل هذه المدوّنة ونَفْض الغبار عنها لبيان طورٍ من أطوار الضاد في تلك العهود التي سبقت النهضة، كما رسمته ريشة ملاحظٍ أجنبي، بما في أحكامه من معايير وتعليقات ومواقف، ولعلّ عينَ الأجنبي أن تبصر ما لا تبصره عيون أبناء البلد. ولكن ستظلّ ملاحظاته جزئيّة، لا تقلب ما هو متعارف عليه.
وهنا يُطرح سؤالٌ دقيق: هل يمكن عدُّ مثل هذه الأعمال المعجميّة تمهيدًا للاستعمار ومساعدةً له حتى يبسّط سيطرته بواسطة المعرفة اللغويّة؟ أم إنه مجهود علميّ، لا صِلة له بالتوظيف السياسي؟ تضعنا الإجابة أمام مفارقة: فالرّجل جمع ما تيسّر له من المفردات وقدّم تَرجَمتها مقترِحًا بَعضها من معارفه الخاصّة والآخر ممّا ظَفَر به في عمله بالقنصلية ومَكاتب الجيش وأعمال المترجمين الآخرين – وهذا في حد ذاته إنجازٌ استفادت منه الضاد واغتَنَت به. وأمّا استخدام مثل هذه المعاجم لبسط النفوذ وفَرْنَسة الإدارة وإجرائها على النسق الأوروبي، عبر انتقاء المصطلحات واقتراح المقابِلات، فهي ممارساتٌ تكاد تكون طبيعية في علاقة السلطة بالمعرفة، على النحو الذي حدّده ميشال فوكو. ولا تزال كلّ السُلَط تستفيد من جهود العلماء في كلّ الاختصاصات، والمعجمية من بينها، من أجل تثبيت النفوذ وإحكام القَبضة، إلّا أنه هنا نفوذٌ يمارس على شعب ضعيف، أُريدَ أن تُطمَس هويّته عبر التأثير اللغوي. وهنا يكمن الفرق.