مُفارقةٌ حقيقية تلك التي تتقابل فيها وَحدة اللغة العربية من جهةٍ، وتعدد المجامع المشرفة عليها من جهةٍ ثانية. ففي الوقت الذي يعمل فيه العلماء والنحاة، ومنذ القرن الأول للهجرة، على جعل الضاد لغة مُوحّدةَ المُعجم، متجانسة القواعد، يقاس بحسبها الاستخدام، لم تكفَّ الجماعات والكيانات السياسية الناطقة بها عن التشتت والافتراق، بدءًا من دُول الخلافة المتعاقبة، وصولاً إلى مرحلة تشكل دول عربية مستقلة، خرجت لتوها من نير السلطة العثمانية أو من الاستعمار الغربي. إذ يتقاسم اليوم البُلدانَ العربية أكثر من عشرة مجامع لغوية وعدد كبير من الهيئات والمؤسسات، تصرِّح جميعها، في أنظمتها الأساسية، أنها تهدف إلى خدمة الضاد وتشرف على وضع المعاجم والترجمة والنشر وإحياء التراث. بيد أنها ترتبط كليا بعلاقة تبعية كاملة بالدول القائمة عليها، وتستند إليها لتحصيل موازناتها السنوية.
وتتمثل المفارقة الثانية في كون تأسيس المجامع العربية الأولى، في مصر والشام والعراق، لم يكن يهدف إلى خدمة اللغة والسهر على بقائها وصفائِها فحسب، بل أيضًا إلى إنشاء دولة عربية واحدة، تتطابق حدودها مع الأمة العربية الموحدة. فقد جهدَ دعاة القومية الأوائل مثل عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902)، والمنظّرون اللاحقون مثل ساطح الحُصري (1879-1968)، إلى إحياء العربية وجمع الناس عليها، بغاية إنشاء دولة عربية واحدة “من الخليج إلى المحيط”، ولو بعد حين. على أنَّ التاريخ الحديث والمعاصر كرّس ما كان القوميون العرب يطلقون عليه، بازدراءٍ، اسم: “الدول القُطرية”. ومن أحشاء هذه الأخيرة، انبثقت هذه الكيانات والمؤسسات الثقافية التي تحمل في طياتها مفارقةً ثالثة.
ففي الوقت الذي تموّل فيه هذه الدول مجامعها اللغوية، العاملة تحت سلطتها القانونية والخاضعة لتوجهاتها السياسية، تدافع في ذات الآن عن الضاد التي هي تراث مُشاع مع دول أخرى، وجزء جوهري من الهوية الثقافية الجامعة لاثنتَين وعشرين دولة، بل والمقوم المركزي لتاريخها وثقافتها، الأمر الذي يعني ازدواجية الولاء والإحساس بالتشظي في مكونات الهوية التي تغدو -بفعل هذه الثنائية- موزعة بين الانتماء إلى تراث عام، يمتد إلى أكثر من ستة عشر قرنًا ويتيه في امتدادٍ جغرافي شاسعٍ، وبين الانتساب إلى دولةٍ حديثة، لها حدود وطنية مرسومة.
وتترتب عن هذا الانقسام بين مجامع قُطْرية متعددة وخدمة هوية واحدة، أشكال عديدة من الاختلال: فقد صارت هذه المؤسسات المتخصصة في الأصل للضاد، تُستغل من أجل خدمة الثقافات والآداب المحلية، من روايات وأشعار، وسائر النتاج الفكري الخاص بكل بلدٍ على حدة. ولا يشك أحدٌ في أهمية هذا العمل ومشروعيته بل وضرورة إنجازه، ولكنه لا يمكن أن يتم ضمن شعار خدمة الضاد حصريًا. ومن جهة ثانية، يتسبب هذا الوضع في تشتّت الجهود وتكرارها، مع غياب أية استراتيجية واضحة، مما يجعل مجامعَ مختلفة تنهض بنفس العمل، دونما تنسيق بينها، بسبب انعدام التواصل. وهو ما يجرّ إلى إضاعة أوقات نفسية وإهدار جهودٍ جبارة، كان يمكن استثمارها بشكل أمثل.
ومن مظاهر الخلل أيضا وقوع المجامع اللغوية تحت طائلة الخلافات السياسية التي تميز العلاقات العربية البَيْنية. ولا أدل على ذلك من مقاطعة مجمع اللغة العربية بدمشق طيلة الأزمة السورية، وكذلك مجمع القاهرة في فترة التطبيع مع إسرائيل، مع أنه من المفترض أن تكون الأعمال واللقاءات العلمية بمنأى عن الخلافات العارضة. وكلها دلائل تشير إلى تكريس الانقسام الثقافي كمرآة عاكسة لحجم التشتت الحاصل في الواقع العربي، بارتباكاته وأزماته.
وأما أشد المفارقات إيلامًا فهو غياب مجمعٍ للعربية، بالمعنى التقني للكلمة، في دول الخليج العربي رغم ضخامة الإمكانات التي تتوفر عليها وقدراتها على استقطاب اللغويين العرب، من مختلف الاختصاصات، والاستفادة من معارفهم وتجاربهم. وليست الكفاءات المحلية لهذه الدول، ولا تلك التي ستستقطبها من الأقطار الأخرى، بالذي يعوزها، وإنما الإرادة في جعل الضاد أولوية تعادل في ضرورتها القضايا الحساسة الأخرى.
على المستوى المعجمي المحض، يكرس هذا الواقع الازدواجيات اللغوية بأشكالها السلبية (العاميات مقابل الفصحى، المصطلحات الجِهوية مقابل المفردات العامة)، وهو ما يعقد التفاهم بين أبناء الأمة الواحدة. ويمكن أن نضرب مثلا واحدًا لذلك، فاستدعاء كلمة Training يتم عبر مفردات مختلفة، بحسب البلدان، مثل: “دورة تدريبية”،”تدريب”، أو “تربُّص”. وتظهر المسألة أيضا في اقتراض المفردات والمصطلحات الأجنبية، فهي تتكاثر في العربية دون ضوابط. ومن أبسط أمثلتها “رومانسية” و”رومانطيقية”، بحسب المرجعية الاستعمارية، أكانت إنكليزية أم فرنسية. وهذا ما يؤكد بدوره أن التشتت يعيق مجال الترجمة ويضاعف صعوباتها، ومن عناوينه أن لا تقرأ (ولا تقبل) بعض الترجمات المغاربية في المشرق، والعكس بالعكس. وتؤكد هذه الأمثلة، على بساطتها، غياب هيئة عابرة للأقطار العربية، تعمم أبحاثها كمرجعية وحيدة في إقرار المفردات.
وقد يكون الحل في اتخاذ قرار بإنشاء مَجمع عربي واحد تنصهر فيه هذه المجامع الفرعية، ضمن مسارٍ يجعل منها روافد ثرية للمجمع الأكبر (والأوحد)، على أن تكون رئاسته دوريةً، وصلاحياته واضحة، ومجلس إدارته تمثيليًا لكل البلدان وللهيئات المشتغلة على اللغة العربية، وأن تتعلق وظائفه حصرًا بخدمة الضاد، معجمًا، ومصطلحًا ونحوًا. نشير إلى هذا الإمكان، وفي أذهاننا فشل اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية برئاسة طه حسين عام 1971.
قد تكون الظروف تغيرت. فيكون من المجدي الاستفادة من التطور التكنولوجي والبدء بإنجاز موقع إلكتروني واحد يضم أعمال المجامع، لتيسير الاطلاع عليها، بشكل نسقي، وخلق مجال موحّد يتيح مقارنة اجتهاد هذا وذاك، لاعتماد الخيار الأنسب والأكثر فائدة للغة العربية. ومن المجدي أيضا البدء بإصدار معجم عربي سنوي مُحين، مثلما هو الشأن Petit Robert وغيره، في معظم لغات العالم الحية. والأهم من ذلك، المبادرة باتّخاذ خطوات ملموسة لإطلاق مشروع المعجم التاريخيّ للغة العربيّة الّذي قد يساعد المختصّين والباحثين على فهم أعمق لتطوّر العربيّة على مرّ التاريخ، واختيار السياسة اللغويّة الأنجع لتطوير هذه اللغة بعيدًا عن طرائق الوصف التقليديّة الّتي أبانت عن عُقمها في عصر العولمة. ذلك أنّ جذور القضية تكمن في المضمون العملي والمرجعية المعرفية لهذه المجامع، إذ نلاحظ غلبة المناهج التقليدية في درسها للظواهر اللغوية وعدم الاستفادة من منجزات الألسنية بمختلف فروعها ونظرياتها الحديثة (المعرفيّة، التداولية، الوظائفية، نظرية الحقول الدلالية، نظريات أفعال الكلام…) التي سارت أشواطًا طويلة في عالم المعرفة ولكن نتائجها تكاد تبقى مجهولة في بلداننا.