ولئن بدا اختيار اتجاه الترجمة، في المعاجم المزدوجة، تفصيلاً تمليه الضرورات التعليمية أو مكاسب النشر التجارية، فإنه يتضمّن إشكالاً مركزياً يتصل بمدى التناسب بين ثلاثية اللغة والفكر والواقع. كما يحدد اتجاه الترجمة هذا ومبادئ ترتيب المداخل منهجيةَ ذكر المقابلات وطرق توليدها، فيُظهر طبيعة التطوّرات الدلالية في علاقاتها بتحوّلات التاريخ ووسائل الاستحداث اللغوي، الهادفة إلى تحقيق مواكبة القاموس لمظاهر التغير، مادية كانت أو مفاهيمية.
ويحسن التذكير هنا بأنَّ صناعة المعاجم ثنائية اللغة، عربية- فرنسية، أو العكس، تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر. ويعد المستشرق البولندي ألبير كازيمرسكي (1808-1887) سبّاقاً في هذا المضمار، حيث ألف معجمه الضخم؛ “المعجم العربي- الفرنسي”، معتمداً فيه على القاموس المحيط للفيروزآبادي، وإضافات اللغوي اللبناني بطرس البستاني (1819-1883). ثم تتالت بعد ذلك مثل هذه الآثار الكبرى، كمعجم الإنكليزي وليام لاين (1801-1876)، والمعجم الكامل للفرنسي ريجيس بلاشار (1909-1973)، الذي صنعه بالتعاون مع مصطفى شويمي.
وبشيء من الحُرقة، أذكر للتاريخ أني شاهدت آلاف الجذاذات التي جمعها المستعرب الفرنسي شارل بلا (1914-1992) لإعداد معجم مزدوج شامل، يضمّ الفصيح والدارج، ولكن المنية عاجلته، فلم يُتم مشروعه الضخم، وظلت الجذاذات في صناديق حديدية، بمقر معهد اللغات الشرقية في أنيار (الضاحية الشمالية لباريس) حتى سنة 2009، تاريخ الانتقال إلى المبنى الجديد بقلب باريس، فضاعت كنوز هذا العالم وألقيت مع النفايات.
ولكنَّ أسيَرَ هذه الأعمال بين الناس، دون منازع، هو قاموس “السبيل” الذي جمع مواده دانيال راغ (1930-2007)، مراعياً فيه الترتيب الأبجدي العربي، حسب الجذور الثلاثية والرباعية للكلم العربي. وقد ذكر لكل جذرٍ مشتقاته الاسمية (اسم الفاعل، المفعول والمصدر…)، وسائر صيغ أفعاله، المجردة والمزيدة.
وقد التزم هذا المستعرب ذكر المقابلات الدلالية الحديثة التي طرأت على عالم اليوم، وأغفل تلك التي خرجت عن الاستعمال فلحقت بغيابات الغريب، بعد أن عجّت بها المعاجم القديمة مثل “لسان العرب” لابن منظور، وقبله “العين” للفراهيدي. وتميّز عمله بإضافة ملحقٍ فرنسي احتوى كل الكلمات الفرنسية، التي يتضمّنها قاموسه، مع إلحاقها بأرقام الجذور العربية التي تناسبها. وهو ما يؤكد أن العمل موجّه إلى القارئ الفرنكوفوني الذي ينطلق من الكلمات الفرنسية ليبحث لها عن مقابلٍ عربي.
وما لبث أن شارك، في هذا المجال البحثي، المعجميون العرب مثل جبور عبد النور، وسهيل إدريس، ويوسف أسعد داغر، فأسهموا في إثراء المعاجم المزدوجة، متبعين طريقة ميسّرة، لا تتقيّد بمبدأ الاشتقاق الذي قد يعوق الطلبة عن إيجاد الكلمة بسرعة، فينفرهم من استخدام المعاجم أصلاً.
وكان من ثمرات هذه الجهود أن شاعت هذه الترجمات والمقابلات في مجال حياتنا اليومي، وصارت تلعب دوراً مركزياً في الاستخدامات الفنية (القانوني، الإداري، الاقتصادي، المالي، الصحي…). بل ونشطت حركية صناعة المعاجم المزدوجة المختصة حاملةً إلى القارئ سلسلة من المفردات التقنية والمصطلحات ذات الدلالات الدقيقة التي تجمع الكلمات المفاتيح في مختلف الميادين العملية، حتى وإن سبق أحياناً استخدامُها في الواقع إدماجَها في المعاجم.
ولئن نهضت هذه المعاجم كلها على مبدأ التوازي التام بين الأفكار، وتعادلها بين اللغة- الأصل واللغة- المآل، فإنها تعاني أحياناً، ضمن المواد المحررة، من غياب المقابلات الدقيقة، وتكتفي بالتعريب الصوتي للكلمات الدخيلة، مرسخة بهذا الحل السهل تباين شبكتَيْ تأويل الواقع وتقطيعه، واختلال التوازن بين عناصر اللغتيْن، مما يتجلى في ضربٍ من الاختلال وتضاعف “الخانات الفارغة”.
ويكفي للتدليل على ذلك عرض كلماتٍ من حقل الإعلام، لنرى حجم هذا التفاوت: فثمة كلمات عُرّبت صوتياً مثل “ميديا”، “انترنت”، وأخرى أوجد لها مقابل فصيح مثل “تغريد”،”مغرّد”، و”مدوّن”. والبقية تُرجم معناها بشكلٍ حرفي، مثل: “الشبكة العنكبوتية”، على ما في الحَرْفية من العنت.
ولا تزال هذه الإنجازات، على أهميتها، تفتقر إلى بنية شكلية واضحة صارمة، تُقدّم عبرها المواد بمنهج مرنٍ في البحث عن الكلمات، والتعريف بها، وترجمتها، من أجل احتواء ظاهرة وفرة المصطلحات الجديدة وتشتت معانيها. وهنا بالضبط تطرح قضية تنظيم المداخل إما باعتماد الترتيب الأبجدي داخل الكلمة ذاتها، أو بالرجوع إلى الجذر.
ولا مناص من إثارة سؤال وحدة الجذر أو تعدديته، ومدى ارتباطه بالأفعال أو بالأسماء، وهو ما حدا بالمعجميين إلى الترتيب بحسب حروف الهجاء من غير النظر إلى الجذر، فكلمة “مفتاح” مثلاً نجدها في فصل الميم ثم الفاء والتاء، وليس الفاء والتاء.
كما تشكل تعددية المعاني وتباعدها أحياناً عن دلالة الجذر الأصلية، ثم اكتسابها سيلاً من الدلالات الحافة والسياقية، واستخدامها في مقامات تواصلية متنوعة، عائقاً حقيقياً أمام الاستيعاب التام لها في لغة ثانية. رغم أنَّ المعاجم المزدوجة تسمح بضبطها حسب الحقول الدلالية الأجنبية، في حين كان الأقدمون يضبطونها بالنظر إلى المتن الفصيح فقط.
هذا، وقد ازدادت نجاعة هذه الأدوات بحذف كل الشواهد الشعرية ونصوص القرآن والحديث والأمثال، أولاً لأن تلك الشواهد بالية وقد تجاوزها الذوق الأدبي، ثم لأنها من طُرق القدماء في التنصيص على المعنى وإثبات فصاحته، وهذا ليس من اهتمامات المعاصرين. وربما لهذا السبب، اختار بعض المعجميين إدماج المفردات الدارجة والمحلية في ثنايا الفصيح، باعتبارها جميعاً تشكل وحدة المتن المعجمي، ولا مجال إلى التغاضي عنها أو عزلها.
ولعلَّ أعقد القضايا معرفياً تلك التي تتصل باستحالة الترجمة في العديد من الحقول الثقافية مثل الكلمات الدينية (مغفرة، هدى، رحمة، بيان إعجاز…) التي لا مقابل لها في أية لغة أجنبية، ومتعلقات الصحراء والبادية التي ترتبط بها مئات المفردات العربية وهو ما يقتضي تعريبها بجملة شارحة.
وهكذا تتضح متانة الصلة بين المعاجم المزدوجة والتاريخ الثقافي والمفاهيمي بوتائر تحوّله المتسارعة، إذ تشكل هذه القواميس الثنائية، تحدياً ورافداً، فهي تجبر اللسان العربي على إيجاد مقابل حقيقي أو تقريبي للمفردة الأجنبية، التي قد تحيل على مفهومٍ أو تصورٍ ذهني، أو منجزٍ تكنولوجي، مما يقوي آلية التوليد ويفتح أبواب الاقتراض، ويدفع الضاد إلى تجديد نفسها، حتى تواكب بمفرداتها تحولات العالم، وما أشد انفلاتها.