قِصّة هذا المُعجم حقيقةٌ، لا أثرَ للخَيال فيها. سَأرويها بموضوعيّةٍ وصدقٍ بالاعتماد على مَوثوق الشهادات وملاحَظة العيان. كان المُستعرب الفرنسي الكبير شارل بِلاّ (1914-1992) مُدرّسًا للغة والآداب العربيّة بمَعهد اللغات الشرقيّة بباريس، والذي كان مقَرّه بالدائرة السابعة من قلب باريس، غير بعيد عن مُؤسسات الدّولة العريقة. ولأسبابٍ سياسيّةٍ متصلة بِثورة مايو 1968، تلك التي هزّت الجامعات الفرنسيّة ونادت بدمقَرَطة التعليم العالي، نُقلت أقسام اللغة العربيّة والفارسيّة والتركيّة والعبريّة، وهي اللغات النادرة، إلى إحدى ضواحي باريس الشمالية Asnières، وهي منطقة شعبيّة، حيث أقيم مبنًى خاص بهذه اللغات، أضيفت إليها الألمانية فيما بعد.
وفي أحد المكاتِب المتواضعة، المُلاصقة لقاعة الأساتذة، كان هذا المُستعرب يَشتغل في صبرٍ: يستقبل طَلبتَه ويحرّر موادّ “الموسوعة الإسلامية” التي توَلّى إدارة نُسختها الفرنسيّة منذ سنة 1956 حتى وفاته. وفي مَكتبه ذاك، أرسى خَزائنَ حديديّة طويلة، كتلك التي نُشاهدها في مَكاتب المخابرات بأوروبّا الشرقية سابقًا، لترتيب جُذاذاته المعجمية التي حرّرها بخَط اليَد. وهي تتألف من عشرات الأدراج، تُحدثُ مثلَ رجْع الصدى حين تُفتَح أو تُغلق. وفي كل دَرَج حديديّ تتراصف الإضبارات المربّعة، التي لا يتجاوز طولُها وعَرضُها عشرَ سنتمترات.
تتضمّن كلّ إضبارة منها مُفردة فرنسيّة في الأعلى، تليها تَرجَمتها بالعربية الفصحى، وأحيانًا مقابلاتٌ من الدّارجات المغاربيّة ومن الأمازيغيّة، إذ كان الرجل يُتقن ما يزيد على عَشر لغاتٍ. وكانت نية هذا العالِم، حسبَ ما صَرّح به، إنجاز مُعجم مُزدوج يُنافس به معجمًا ثلاثيّ اللغات، كَتَبَه هو سابقًا، مع زملائه ريجيس بلاشير (1910-1978) وكلود دونيزو ومصطفى الشويمي، وصَدر في ثلاثة أجزاء (1970) ولمّا يكتمل. وقد أقصيَ منه شارل بلاّ بطريقة مُهينة رواها في مُذكّراته، “حياة مُستعرب”، التي طَبعها عبد العزيز الغُزّي سنة 2007، في مطبعَة “مكتبة ابن السّرّاج” بباريس، رغم أن هذه المذكّرات لم تَكتمل هي الأخرى.
ويبدو أنَّ شارل بِلاًّ كان ينوي تخصيص إضبارَةٍ لكلّ مَدخل معجميّ، مع التركيز على مفردات العربية الحديثة ومقابلاتها الفرنسيّة. فهو، بهذا الاختيار، مُعجم مزدوج: فرنسيّ- عربي. وقد قَسّمه إلى ثلاث سجلاّت لسانيّة: الفصيح، لهجات المغرب الكبير والأمازيغيّة. وقد تَميّز بالتركيز على المعاني التي ظهرت في القرنَيْن التاسع عشر والعشرين، إلى جانب ما خَرَج من الاستعمال لتقادمه. وكان شارل بلاًّ شديد الدقة في تحديد الدلالات التي تكتسيها الأفعال والأسماء وذِكْر تغييراتها بتغَيّر ما يلحق الكلمَ من أدواتٍ وحروفٍ.
إلا أنّ يَد المنون اختَطفَت هذا الأستاذ سنة 1992، بعد أسابيع قصيرَة من المَرض، فتَخَلّى عن إدارته “للموسوعة الإسلاميّة”، وتَركَ خزائنه وأدراجه الحديديّة يتيمة، تتآكل تحت غُبار الإهمال والنسيان، دون أن يتسلّمها أحدٌ من أسرته، حيث أنّه تقاعد من جامعة السّوربون منذ سنة 1978، ولكنّه ظلّ يتردد على مكاتبه في “معهد اللغات الشرقيّة” وفي السوربون حتى وفاتِهِ.
وظلت تلك الإضبارات، وعَددها بالآلاف، رهينة الخزائن الصلبة. في كلّ مرّةٍ، يدخل أستاذ فيلقي عليها نظرة ولا يزيد على تحريك الكَتفيْن، على أمَل أن يرقنها أحَدٌ يومًا ما. ومِثلَ زُملائي، رأيتُها لأول مرة سَنة 1997 أيْ بعد خمس سنواتٍ من وفاة منشئها، وظللتُ أراها حتى سنة 2009 قابعة في مكانها لا يأبه بها أحدٌ لِخَطَر المهمة وجسامة المسؤوليّة أو تهيّبًا لميراث الرّجل العالِم وما يمكن أن يَنجمَ عن فتح “صندوق البندورة” ذاك من قضايا قانونيّة متعلّقة بحقوق الملكيّة، وهي في فرنسا شائِكة.
ومن ألطاف القَدر أنَّ أستاذ المَعْجَمة العربيّة د. العيادي شابير، باحث تونسيّ مقيم بفرنسا، اقترح على طالبة دكتوراه جمع تلك الموادّ ورقنها ودراستَها. ولكنَّ ظروفًا ماديّة ولوجستية حالت دون إتمام المشروع. ولم يتحصّل هذا الأستاذ إلا على مساعدة ضئيلة، تَمكّنت بفضلها الطالبة من رَقن مداخل الحروف الفرنسية الأولى فقط:A، B، C، D، وحفظها في ملفاتٍ، إنقاذًا لها من التلاشي.
ولما أراد هذا الأستاذ بعزيمته الصلبة مُواصلة بقية الموادّ، تعَلّلت الإدارة بشحّ الموارد واحتجّت بأنّ القواميس الورقيّة قد تجاوزتها الأحداث وأنّ طريقة الشرح والمعاني الواردة فيها ضَرَبَها البلى، وأنَّ الأولويّة الآن لتمويل الأعمال الرقميّة. وكانت رَقمَنة الأبحاث المعجمية ومدوناتها في بداياتها وتُعدّ حينَها، في تاريخ الألسنيّة، فتحًا مبينًا. أذْعَن الأستاذ بمَرارةٍ لهذه القرارات الاعتباطيّة. وظلت قضية الإضبارات تُطرح بانتظام. وقد بَلغتْ بي السّذاجة أنّي طَلبت نَقلها، على حسابي الخاصّ، إلى قبوٍ في بيتي.
وفي تلك الفترة بالذات، سنة 2010، انتقل المَعهد من ضاحية أنيار الشمالية إلى الدائرَة الثالثة عَشرَ بباريس في مبنى جديد يُطلّ على نهر السّين. ويبدو أنّ أمينَةَ المعهد السيّدة دانيال لوهنار، والتي أوكِلَ إليها أمرُ إغلاق المركز بِأسره ونقل محتوياته، أمرت شاحنات النّظافة بأن تحمل تلكَ الخزانات بما فيها، بعد أن رَفضت إدارة المعهد تَسلّمها، لتُلقى في مَكبّات النفايات والأوراق.
وفي تلكَ اللّحَظات الحاسِمة، هاتَفَ حارِس المبنى، بمحض إرادته، الأستاذ العيّادي شابير طالبًا منه أن يحضر إلى عَين المكان قبل أن تحمل الشاحنة أكياس الإضبارات وتُلقيها. حَضَرَ على جناح السرعة، وطلب من السائق تركَ الأمور على حالها. وهاتَفَ السيّد سالم شاكر، نائبَ رئيس معهد اللغات الشرقية وأستاذ اللغة الأمازيغية، والتمس منه أن تُنقل تلك الكراتين إلى فرعٍ من فروع المعهد ومنه إلى مقر الإدارة الذي بقي مفتوحًا في الدائرة السابعة. فَوافق على تسلمها.
وما تزال منذ ذلك الحين تقبع هناك ولا أحد يجرؤ على التعامل معها. ولكنَّ القَضاءَ حُمَّ، وألقيت ثلاثة أكياس منها في المزابل، تلك التي تقع مباشرة جنب الباب، والتي تُغطّي الكلمات المبدوءة بالحروف الأخيرة من الألفباء الفرنسي: Z، X، Y، باعتبار أنّ شارل بِلاّ جَعلها في آخر الغُرفة، حذوَ المدخل، بعد أن رتّب خزائنه فيها حسب ترتّب الحروف.
ضاعت إلى الأبد موادّ هذه الأحرف، ومعها سنوات تحريرها وجُهود مستعربٍ هُضم حقّه رغم ما قدّمه، بحسن نيةٍ، إلى الثقافة العربية الإسلامية في كتابه “تاريخ اللغة العربية وآدابها” (1952) فضلاً عن تحقيقه وترجمته لسائر كتب أبي عمرو الجاحظ. ومن هذا المنبر أتوجّه للمؤسسات الثقافيّة عساها تخصص اعتماداتٍ ما لاقتناء هذا الرصيد النّفيس، أو على الأقل، لتكليف طالبٍ/طالبة بإتمام رقنه حتى يُنقَذ هذا المعجم الذي حافظ على طورٍ من أطوار اللغة العربية وتحولات معانيها، فلا تضيع سنواتِ شارل بِلاّ هَدرًا وتفقد الضاد أحد معاجمها المعاصرة الأكثَرَ دقّةً وثراءً.
ولإكمال القصة لا بد من الإشارة إلى أن الرجل سلم هذه الكراتين الحديدية بما حملته إلى زميل فرنسي له هو جيرار لوكونت المتخصص في النحو العربي وطلب منه السهر على طبع المعجم وتحقيقه وربما اتمامه كما طلب نفس الشيء من طالب لديه هو السيد عفيف بن عبد السلام إلا أن الأستاذين لم يتمكنا من النهوض بهذه المهمة الجليلة أو انهما انشغلا عنها لا سيما بمرور الزمن ووفاة صاحبها وهجمة الرقمنة مما جعل المشروع يبدو وكأن الأحداث تجاوزته.