جدل الفصحى والدارجة: بين التعلل والبرهنة

يونيو 6, 2022 | الدراسات المعجمية

جدل الفصحى والدارجة: بين التعلل والبرهنة، في الصائفة الأخيرة، تَعالت في بعض دول المَغرب أصواتُ جمعياتٍ تنادي باستعمال الدارجة في التعليم الابتدائي، وكان آخرُها ما صدرَ عن ممثل وزارة التربية الوطنية الجزائرية الذي دعا – عبر القنوات الرسمية- إلى ضَرورة استخدام العامية في التدريس طيلةَ سنوات التعليم الأولى. وتَعود هذه الدعوة القديمة الحادثة – بشكل دوري – يَدفعُ إلى استكشاف دوافعها الاجتماعية والسياسية، وما يختفي وراءَها من محددات وعوامل. إلا أنَّ الجديد في صيرورة هذه المناداة هو إسهام وسائل الإعلام وشَبكات التواصل الاجتماعي في نَشرها وتعميمها، والدور الجديد الذي باتت تضطلع به مُكوِّنات المجتمع المدني في ترسيمها وإقحام الدولة فيها، في زمنٍ انحَسَر فيه الفكر القومي وتضاءل زخمه العاطفي ودفعه الإيديولوجي، وكلُّ أولئكَ عمَّمَ الظاهرة، وأعطاها بعداً أشمل… وأخطر.

وسَنعرض هنا “الحُجج” التي يُقدمها مناصرو الدارجة حتى يَتَسنى فهم أسُسها ومن ثمة الإسهام في حوارٍ بنّاء حول هذه القضية المصيرية.

يستند النقاش إلى حُجَّةٍ أولى مفادها أنَّ الدَّارجة هي اللغةَ الأصلية في العالم العربي، فهي المُكتَسبة بشكل طبيعي، حيث يَتلقاها الطفل منذ نعومة أظافره، بل هي اللغة الوحيدة التي يَصحُّ وصفها باللغة-الأم، وما عداها تملّكٌ واكتساب. وتسمحُ هذه الحجة بتوليد حجةٍ ثانية تَربط الدارجة بالتواصل التلقائي والتعبير العَفوي عَن العَواطف والأحلام والآمال، وسائر ألوان الانفعال، وكل ذلك يقع بالعامي التلقائي.

ويَدعم المناصرون للدارجة خطابهم بتأكيدٍ ثالث مفاده أنَّ الدارجة لغة بَسيطة التراكيب، يسيرة القواعد، لا يتطلب التعاطي بها مَجهودًا ذهنيا ولا نُطقيًّا كبيرًا، على خلاف الفُصحى التي يَستلزمُ تملكها سنواتٍ من التحصيل، فَهي مَلَكَةٌ- حسب التعبير الخلدوني- تنشأ بالدُربَة والتحصيل وتنبني على آلياتٍ ذهنية معقدة، لا يؤتاها إلا النخبة من ذوي الذكاء والنجابة. ولهذه الدعوى أساسٌ لساني وهو تحبيذ الإنسان الطبيعي للقيام بالمجهود الأدنى.

أضف إلى ذلك، أنَّ الدارجةَ تُمثِّل فضاءً تَشترك فيه كل الأجيال، لا قطيعةَ في تعاطيه بين الأجداد والآباء والأحفاد، خلافا للفصحى التي تفصل بين مكونات الأجيال، وتكرِّس بينها الانقسام اللغوي والتنافر. فللأجداد لُغة الأقدمين، وللخَلفِ التعابير المُستحدثة وبينهما هُوَّةٌ وسوء تفاهمٌ بل عجزٌ عنه وعطالةٌ.

وقد يُضفي هؤلاء على المسألة بعدا قُطْرِيًّا، فَتصير دارجةُ كل بلدٍ تعبيراً عن هويته الوطنية، ولا سيما بعدَ انحسار قيم القومية العربية بمعناها النضالي الذي تبناه ساطع الحصري ومدرستُه طيلة العقود الماضية. المشهد السياسي اليوم مشهد تشظٍ وانقسامٍ تغلبت فيه حدود الجغرافيا على علائق الثقافة وروابط التاريخ. والكيانات السياسية القطرية أعتى من رومنسيات الوَحدة، وهذا واقعٌ موضوعي لا جدالَ فيه.

وبعدَ ذلكَ، يَدعمونَ هذه البراهين بقولهم إنَّ الدارجة لغةَ الفن الشعبي، الأكثر تداولاً لدى الفئات المجتمعية، وهو وسيلة التعابير الجمالية في أشكالها العفويَّة، بسببٍ من تَجذرها في المخيال الشعبي، وارتباطها بالحسِّ الجماعي، لدى العربي العادي الذي ينزع إلى الغناء بالدارجة ويطرب لذلك أكثر مما تَهُزُّه “أطلال” إبراهيم ناجي.

وأخيراً تشيرُ هذه الدعوى -بِطَرفٍ خفيٍّ- إلى الاتصال البنيوي بَين الديانة الاسلامية والفصحى، وهو ارتباطٌ تَسعى هذه الأطراف إلى فَكِّه، ضمن مَسار العَلمنَة للواقع اليومي، ومِفتاحُها لديهم هو هذا الفَصل بين الفُصحى والتجربة الدينية وإبقاء الثانية في حيز الضمير الفردي والفضاء الخاص، وتخليص اللغة من مَظاهر حضور المرجع الديني فيها.

في بعض هذه الحُجج وَجاهة ظاهريَّة، ولكنها تُهمل أساسَ الحدث اللغوي العربي في تعقده الموضوعي، وتلغي معناه البنيوي العميق: المجتمعات العربية مُزدَوَجَة السجلِّ. وهذا الازدواج ظاهرة سوسيو-لسانية معروفة أطلق عَليها المستعربون اسم Diglossie ولاسيما وليام مارسيه   William Marçais في أعماله التي تَعود إلى 1930. ويعني المصطلح وجودَ سجليّْنِ من الكلام، يَفضُلُ أحدُهما الآخر من حيث أنَّه اللغة العليا، المُخَصَّصة للتعاملات الرسمية، في حين تُستَعملُ الدنيا في التعامل اليَومي وابتذالات السوق.

إلا أنَّ الحدود بين السجلين أشدُّ تعقيدًا وأبعد في الوهم من يحاط بها في مقالٍ أو كتابٍ، فليست هي بالحدود الثابتة، فَدائرتا الكلام تَتداخلان كلَّ آنٍ، ولا قَطيعَةَ بَينهما، لأنهما في تجاذبٍ مُستمرٍّ، في صورة لاواعية وجماعية، يُغذّي أحدهما الآخر، لأنَّه سليلُه والمُنبَثِق مِن صلبه، وما الدارجة إلا طورٌ تاريخي من أطوار الفُصحى، حُذفت منها علامات الإعراب وبُسِّطَت تراكيبها، وانضاف إليها على مدى القرون المُقتَرَض من اللغات المجاورة. وقديمًا، كان إلى جانب لَهجة قريش العُليا Koïnè  لهجات القبائل الأخرى، وبِكُلٍّ نَزَلَ القرآنُ، وفيه- طِبقًا لإحصاءات الجواليقي في مُعَرَّبِهِ- ما يَربو على أربعمئة مفردة أعجمية الأصل، عَرَّبَها كَرُّ الأزمان واحتكاك الثقافات. وما انفكَّت العبارات الدارجة – في كتب الجاحظ – تسرُّ القارئين وتحيرهم، وأصرَّ كاتب البخلاء على إدماجها وإلا أفسد أدبهَ.

ولذلك فالربط المتسرعُ بينَ شعائر الدين وفصاحة اللسان خَطأ في التوصيف، لأنَّ المعوَّل عليه في هذا النقاش ليس عربية الجاهلية التي بها نُظِم القرآن، بل الفصحى المعاصرة التي توالدت فتكاثرت ولا تزالُ طيلة القرنين الماضيين حتى بلغت أوْجها مع القنوات الإخبارية العابرة للحدود فاغتنت بآلاف المفردات والعبارات، وصارت لغة التواصل والإدارة والسياسة، تحتلّ من الوعي- اللغوي العربي الحيزَ الأكبر، وبها تتناتج مقالات الإعلام ومَقاطع الأدب وتجليات الروح.

وأما الربط بين القُطْرية والدارجة فَقِصَرٌ في النظر، إذ لا تَشابُهَ بين لهجات البلد الواحد حتى نوهم بوجود لهجة بكلِّ قطرٍ، بل لهجات وصيغ مختلفة بين المناطق، بل وفُوَيْرقات في العائلة الواحدة. ولا خطرَ أفظع من قطع التواصل مع أربعمئة عربي، قوام ثقافتهم الجامعة هو الفصحى الوُسطى المُعاصرة، وهي أداة التفاعل الوحيدة، صامدةٌ مواضعاتُها وإنْ أبَت أنانيات السياسة إلاًّ عنادًا.

التَّعامل الرصين مع هذه القضية الجوهرية يقتضي البدء بالوَصف  الألسني الدقيق لسجل الدراجة الذي هو طورٌ تزامني من الفصحى (Phase diachronique). وبَعدها، عملٌ أكاديمي يضفي مزيدًا من الحَيوية على التفاعل البنيوي بَينَ هذين السجلين حتى يغتنيَ أحدهما بالآخر، وحينها نكتشف أنَّ هذه المعركة كانت هي الأخرى دون كيشوتية، ضدّ طواحين الهواء.

في تحيين قواميس العربية.. غياب مُزدوج

صدر في الأيام الأخيرة  "إصلاح" اللغة الفرنسية؛ جدلٌ في الهوية؟ المُعجَم الفرنسي "لاروس الصغير"، في طبعته السابعة عشرة بعد المائة لسنة 2022، وسيضم 63500 مفردة،...

في هجرة العبارات الجاهزة

في هجرة العبارات الجاهزة. على أعمدة الصحافة العربية، كما في نصوص الرواية الحديثة وخطابات السياسة، تطالعنا العديدُ من العبارات الجاهزة المُستحدثة Idiomatisme،...

شواهد الأدب.. في هجران ولعٍ عربيّ قديم

نلاحظ مُفارقة لافِتة بين ازدهار معاجم الشّواهد والمُختارات في كُتب القدماء، وبين غياب هذا الصنف من التآليف في النّتاج الألسنيّ-الثقافي العربيّ في عصرنا. فقد...