أدب الساسة: هواية أم ممارسة أُخرى للسلطة؟

سبتمبر 25, 2022 | مقالات أخرى

أدب السّاسة: هواية أم ممارسة أخرى للسّلطَة؟  

هل يُمكن للأدب أن يُوَظَّفَ في ألاعيب السّياسة فيكونَ أداة طيّعةً بِأيْدي رِجالها؟ وهل يمكن للسّياسَة أن تتخلّى عن طبيعتها التّسلّطيّة لِتذوب في حساسيّة الأدب وجماليّاته؟ وهل ثمّة من منطقةٍ وسطى قد يَتقاطع فيها هذان المجالان دون مُنافسة ولا توظيفٍ؟ هذه هي الأسئلة التي تَنثال على الباحث بمجرّد التفكير في النّصوص التي أنتجها بعض السّاسة العرب ضمن ظاهرةٍ هامشيّة في تاريخ الأدب وحيويّته، لكنّها تستحقّ التحليل لمعرفة بِضعِ وظائف ثانويّة، لم يُشر إليها منظّرو الإنشائيّة الحديثة، مثل رومان جاكبسون (1896-1982) وجون كوهان (1919-1994) وحتى جون-بول سارتر (1905-1980).

تتمثل هذه الظاهرة تحديدًا في إنتاج السّاسة، وخصوصًا الذي يحتلّون مراكز القيادة، لنُصوص أدبيّة، تُنشر بأسمائهم الحقيقيّة وقتَ ممارستهم للسّلطة أو بأسماء مستعارَة. وقد عرف التاريخ العربيّ الحديث العديد من هذه الأعمال مثل رواياتٍ أربعٍ تُنسب إلى الرّئيس العراقيّ الأسبق صدّام حسين ومثل رواية “القرية القرية”، المنسوبة إلى معمّر القذّافي، فضلاً عن مجموعة أقاصيص كتبها أنور السادات وأخرى حبّرها جمال عبد الناصر في شبابه، والقائمة طويلة، أردنا من إيراد بعض عناوينها التدليل لا الاستقصاء الكلّي.

وقد يكون في تراثنا الثقافيّ العديد من السوابق حيث اشتهر بعض الأمراء بتملّكهم لناصية الأدب، حتى سمّي لسان الدين بن الخطيب (1313-1374) “بذي الوزارتَيْن”، لأنّه كان ممن أتقَن دواليبَ الحُكم مع تمكّنٍ من فنون القول وذهابٍ في أغراضه. وابن المعتزّ (861 -908) صاحب كتاب “البديع”، الذي جمع أيضًا بين مقاليد الإمارة وفنون الشّعر. فالظّاهرة إذن مُتواترة في التاريخَيْن القديم والمعاصر.

واللافت أنّ بعض هذه النصوص كُتبت في فترات انشغال هؤلاء القادة بالعمل السّياسيّ وانغماسهم في دواليبه السّاحقة، مثل ما هو شأن جمال عبد الناصر وأنور السادات، كما يؤكدّه محمّد حسنين هيكل (1923-2016)، ولعلّ صدّام حسين أبرز هذه الأمثلة، فقد كَتب نصوصَه، والعُهدةُ على مُؤرّخي سيرَته، آخرَ حياته وهو منعزل في قصوره، قبيل الغزو الأمريكي بأشهر قليلة، حيث كان، في سنواته الأخيرة، متفرّغا للكتابة بعيدًا عن حياة الناس وما يعانونه أثناء الحصار الأمريكي، وهو ما يوحي بشيءٍ من النرجسيّة طالَما ميّزت هؤلاء الكتّاب، وما كتابة نُصوصٍ خياليّة عن أبطال إلا ترجمةٌ لحبّ الذات وتَضخيمها.

والأغرب من ذلك أن يُنتجَ هؤلاء القادة قصائدَ شعريّة، مثل: “أبحث عنها” للقذافي التي لحّنها المُطرب اللبنانيّ ملحم بركات، و”سمراء”، وهي من تأليفه أيضًا ومن تلحين المطرب الليبي حميد الشاعر وأدائه. وهذا البعد أغرب لأنّ صياغة الشِّعر والتصرّف في مضامينه ولَمَحاته يقتضي حساسيّة دقيقة لا تلائمها ضغوط السّياسة ولا الانغماس في آلياته الاستبداديّة.

من جهة المضمون، نحدس، وهذا ما يفهم من القراءة السّريعة للنصوص المنسوبة إلى صدام حسين مثلاً، أنها ترمز إلى الوَطن والأمة، فتصير بهذا المعنى استمرارًا لدَور “القائد المُلهَم” في تغذية الرّوح الوطنيّة وشَحذ العزائم، التفافًا حول الرموز الجامعة، أي: حولَه. وهنا قد يتماهى النصّ المَكتوب مع الخطاب الشّفوي الذي يُلهب المشاعر من خلال الخَطابَة، كممارسة قَوَويّة، والتي حللّ الألسني الفرنسي باتريك شارودو آلياتها في أعماله العديدة.

وقد ينتمي مضمون هذا الأدب إلى جنس السّيرة الذّاتيّة ورواية الأحداث الشّخصيّة التي مرّ بها هؤلاء السّاسة خلال فترات حُكمهم، وهذا مثلاً ما قام به جاك شيراك وفرانسوا هولاند وساركوزي في الفضاء الفرنسيّ، إلا أنّ هذا البعد مُحتشمٌ لدى القادة العرب، باستثناء بعض الكتابات الحاملة لأسماء مستعارة. ومن ذلك، أوّلَ النقّاد، وهم أيضًا ممن يُحشدُ لمديح نصوص القادة والترويج لها، على اعتبار روايات صدّام مشيرةً إلى أجواء العراق وما كابَده أثناء غزو الكويت سنة 1991 وانطلاق “عاصفة الصحراء” الذي قادها التحالف العسكريّ.

وتوهم هذه النّصوص، رغم رداءة أغلبها، أنّ هؤلاء السّاسة متعدّدو المواهب، يَجمعون في ذواتهم بين الاقتدار على التدبير السّياسي للشّعوب، وبين إنتاج الأدب، وحتى التحليل الفلسفي، من دون تكوين مُسبق. فهي تظهر “عبقريّة” القيادة المزعومة، السياسيّة والأدبيّة، من أجل مزيد من بسط سيطرتها وإحكام قبضتها على الشّعوب المَسحوقة أصلاً.

وقد ينظر إلى هذه “المَلكة” على أنّها علامة على الرّقي الذهنيّ حيث يتأثّر هؤلاء السّاسة، ضمن منطق تقليد الغَرب والتماهي مع وجوهه الشهيرة، ببعض القادة الغربيين مثل تشرشل (1874-1965) الذي حاز جائزة نوبل للآداب سنة 1953 ومثل الرّئيس الأمريكي جيمي كارتر (1924-2002) في كتابه “لديّ حلم”، وحتى الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا في “جرأة الأمل” وغيرهم كثير.

ولذلك، كان من الخصائص الملازمة لهذه النّصوص وجود شكوك جدّية حول نسبتها إلى أولئك القادة، فقد شكّك جلّ النقاد في إمكانية صدور مثل تلك الأعمال عن مثل أولئك الطغاة الذين اشتهروا بصلابَتهم وجُرأتهم في الفتك بالأعداء. وقد طاولت هذه الشكوك أكثرَ ما طاولت صدّام حسين، بل وقد حددت هُويّة الكاتب الخفيّ لرواية “زبيبة والملك” عقب صدورها، وهو سامي محمد الذي تُوفيّ في ظروف غامضة، مما يرجّح إمكانيّة اغتياله. ويتأكد هذا الملمح باستعانة الزعماء بغيرهم من إنجاز نصوصهم، فهي ليست من بنات أفكارهم بالكليّة، وجلّها مَأخوذ مصطنع.

نظريًّا، لا شيءَ يمنع هؤلاء السّاسة من ممارسة هوايتِهم الأدبيّة في أوقات الفراغ، وليس في القوانين أو الأعراف المحليّة والدّوليّة ما يَحرِم الرّؤساء من حقّهم في التعبير، بما في ذلك التصوير الفنّي لخلجات الضمير. لكنْ، مفهوميًّا، لا يمكن لنصوص الأدب أن تذوب في أقاويل السّياسة، ولا لهذه الأخيرة أن تتستّر بِحُلى العبارة الإبداعيّة. فبمجرد أن يتّكئ أحدهما على الآخر ينقلبان معًا إلى لعبة بيد السلطة للتأثير في وَعي الشعب. كما يتناقض جوهر الأدب مع طبيعة العمل السّياسيّ، إذ أنّ وظيفَتَه الرّئيسة أن يعرّيَ دواليب السّلطة وأن يَفضح، عبر الصورة والعبارة، الفخاخ التي تنصبها لإدامة التحكّم في مصائر المحكومين.

أدب الزّعماء إذن ظاهرة اجتماعيّة سياسيّة قبل أن تكون فنّية، يتشابك فيها السياسيّ، وهو الذي يقود اللعبة ويتحكّم في خيوطها الخفيّة، مع موارد اللغة الإنشائيّة، من أجل تحقيق وظائف تتجاوز هذه الأخيرة وتعمل على فرض صورة للزعيم تُكمّل ملامحَ القوّة والنّفوذ لديه، وتجعل له وجهًا إنسانيًّا  مشرقًا، يظهر من خلاله في صورة المبدع العارف بمسالك الجمال والمالك لحساسية فنيّة تغذي طريقة قيادته وتوجّه خياراته السّياسيّة.

مما يعني أنّ الوظيفة نفعيّة محضة، لا تكون فيها المضامين “الوطنيّة” سوى غلاف شفّاف، بالكاد يُغطّي هذا التوظيف الرّخيص لخطابٍ وظيفتُهُ وجوهرُهُ أن يكون خارج السلطة، ناقدًا لها، معرّيًا لاستخدامها الفنَّ ذريعةً لاستغفال فئات الشعب المُجهَّلَة بطبعها.

“ديوان بشّار”: الطاهر بن عاشور محقّقاً وشارحاً أدبياً

غطّت شُهرة تفسير القرآن، "التحرير والتنوير"، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) على سائر أعماله الأدبيّة والفكريّة الأخرى. ولعلّ من أبعد الاحتمالات في...

جان باتيست بيلو.. في علمنة المعاجم العربية

حلّ الأب اليسوعيّ، جون-باتيست بيلو (1822-1904) بالجزائر قادمًا إليها من فرنسا حواليْ سنة 1844، أيْ في الحِقبة الأولى من الاحتلال الفرنسيّ لهذا البلد. واشتغل...

“معاجم المُلاحنة”: إشكاليات التسمية ورسم الحدود

صدرت مؤخراً نسخةٌ مُحيَّنة من معجم "مَلاحِن الفرنسية" Dictionnaire de l’argot français، بعد قرابة قرنَيْن من ظهوره. وكان قد جمعه سنة 1829، أوجين فرانسوا...