حلّ الأب اليسوعيّ، جون-باتيست بيلو (1822-1904) بالجزائر قادمًا إليها من فرنسا حواليْ سنة 1844، أيْ في الحِقبة الأولى من الاحتلال الفرنسيّ لهذا البلد. واشتغل هناك، ضمن السّياق العسكريّ الذي رافق بسطَ النّفوذ الاستعماريّ، أستاذًا للنحو الفرنسي في دار الأيتام ببلدة بن أكنون، قربَ الجزائر العاصمة، ثم في مدينة القسطنطينية. وفي تلك الأثناء، تعلّم مبادئ اللّغة العربيّة. ولمّا عاد إلى باريس واصل دراستَه لها، في معهد اللغات الشرقيّة حتى تمكّن من ناصيتها وألّف أول كتابٍ له بعنوان: “مَبادئ في النحو العربي” (1849)، نسجًا على منوال أستاذه سيلفستر دو ساسي (1758-1838) الذي كان صديقَ رافع الطهطاوي وأستاذَه.
وبعد ذلك، توجّه بيلو إلى لبنان ليستقرّ في بيروت (1867) حيث تولّى إدارةَ “المطبعة الكاثوليكيّة” التي سخّرت إمكانياتها لنشر أعماله اللغوية، إلى جانب إصدار مجلّة “المَشرق” التي كان أسّسَها وأجارها الأب لويس شيخو (1859-1927)، فضلاً عن مجلة “البشير” التي تَصدر أسبوعيًّا والتي تعدّ أوّلَ جريدة مسيحيّة بلغة الضاد. كما شارك في صياغة نُسخة جديدة من الإنجيل باللسان العربيّ (1875). وكان لأعماله صدى كبيرٌ لدى أجيال متعاقبة من متعلمي العربية آنذاك مثل: “منهج للمحاورة الشفويّة” (1871)، و”نُخب المُلح” الذي أصدره مع الأب رودي (1875 -1877) والذي ظلّ مستخدمًا إلى جانب “الفرائد الدريّة” (1882) للأب شيخو. وكذلك “المفردات العربيّة-الفرنسيّة”، الذي وجّهه إلى الطلاّب وكان الهدف منه شرح الكلمات الفصيحة المُتداولَة في الكتب الأدبيّة والدينيّة الدائرة بينهم، إلى جانب تفسير مُفردات الأناجيل وترجمتها. وفي سنة 1896 كلّل أعماله بــ “الدروس الميسّرة في اللغة العربية”، خاتمًا بذلك مسيرةً طويلة من الجهود في نَشر اللغة الفصحى لدى جمهور واسعٍ من غير الناطقين بها.
ويبقى عمله الأهم المُعجم المزدوج الفرنسي-العربي (1890)، في جزئَيْن، والذي اعتمد في صياغته على “القاموس المُختَصر” الذي كان قد وضعه الأب جوزيف هوري (1867) ولكنه لم يَشتهر بين الناس. فما لبث بيلو أن طوَّره وزاد فيه مئات المداخل المعجميّة، وصدّره بمقدمة كتبها ليلة عيد الميلاد 1889.
ويؤكّد بيلو في هذه المقدمة أنّه أنجز هذا المعجم من أجل تيسير أبحاث الطلاّب وتدقيق المعاني لديهم، وتقديم المُقابلات الصّحيحة للمفردات الفرنسيّة، في مسعىً لاجتناب النزعة التقريبيّة السائدة في الأعمال المُعجميّة المعاصِرة له، ولاسيّما في مُعجم إدوارد غاسلان (1840-1900)، الذي اعتبره بمثابة “محيط من الكَلِم يَضيع الطالب بين أمواجه ويتيه بين تَفاصيله المُضنية”، حيث كان غاسلان يكتب الكلمة العربية ومقابلها الفونيتيكي ومعناها باللغتين…ويضيف بيلو أنّ كتابه يتوجّه، بنفس الدرجة، إلى الطلبة العَرب الذين “يتشوّقون إلى معرفة المقابلات الفرنسية”. وقد التزم فيه بوَضع المرادفات العربيّة العديدة لكل كلمة فرنسية واحدة، حتّى يطلع القارئ على التراث المعجميّ الثريّ ويكتشف الفويرقات بين تلك المترادفات.
هذا وقد ركّز بيلو على تسجيل المصطلحات ذات الطابع الإداري والقانوني التي بدأت تشيع في العواصم العربية بعد تحديث الإدارات في ظلّ السلطات الاستعمارية التي فرضت نماذجها في الإدارة والقانون والاقتصاد الرأسمالي. كما دوّن المعاني والعبارات الجاهزة والتداولات الاعتياديّة، إلى جانب أسماء الأعلام ممن نبغوا في التاريخ العربي، ليكون معجمه أقرب إلى مَوسوعة مُيسّرة تمدّ الباحثين بأهمّ ما يحتاجونه من معارف معجمية معاصرة. وقد أضيف له مُلحق به العديد من المفردات التي سقطت أثناء التحرير الأول.
وظل هذا الكتاب في قائمة الأعمال المعجميّة المزدوجة طيلة ما يربو على الستّين عامًا دون منازع. وبعد ذلك، لا أحدَ يدري أيّةَ لعنةٍ حلت بهذا العمل الدقيق حيث امّحى منه اسمُ جون باتيست بيلو نهائيًّا، مع أنه كان أكثر المعاجم المزدوجة اشتهارًا وشيوعًا. وهذه القصّة من الغرابة والعَجب بحيث لا بد وأن تسجّل للتاريخ، ذلك أنّ الأب رافائيل نَخلة اليسوعي “استولى” على هذا المعجم سنة 1952 وأصدر منه ما ادعى أنه “طبعة جديدة مُعدّلة كليًّا”، بعد أن غَيّرَ اسمَه وخطة ترتيب المفردات فيه فصار يحمل عنوان: “المنجد”، وهو السائد اليوم بين الناس في طبعاته العديدة. فهل هذا من قبيل السّرقة الأدبية التي صمتت عليها الناس؟ أم أنَّ إعادة الطبع في مجلد واحدٍ تشفع لنسبته إليه بعد أن قامَ بتعديل مواده وترتيبها وإضافة أخرى لها؟
في كل الحالات، يتوجّه هذا المعجم الى المستشير المتعجّل الذي يودّ معرفة المقابل العربي للفظ الفرنسي دون أن يتيه في التعريفات والتعليقات النحويّة والصرفيّة، كتلك التي كان تَغرق فيها المعاجم المطولة فهو أقرب إلى الاستخدام المدرسيّ بشكله وغاياته. ويتنزّل هذا العمل ضمن المجهودات التي قام بها الآباء المسيحيون في خدمة التراث المعجمي العربي وتطوير العربية المُعاصرة شكلا ومضمونًا، ومن أشهرهم الآباء الذين اشتغلوا في هذا المضمار، كوش وهافا وهنري وقد خصّص لهم المستعرب هنري فلاش مقالاً قيّمًا بمجلّة “أرابيكا” (1963).
إلا أنّ هذه الأعمال تطرح قضيّة العلاقة الحسّاسة بين الخلفيّة الدينيّة والاختيارات المعجمية ومحتوى التعريف وكيفية إثبات الشواهد وآليات ضَبط المعنى وإثبات حجيّته، حيث تلازمت خدمة الضاد ومفرداتها، لدى هؤلاء الآباء اليسوعيين، مع ترجمات الكتاب المقدس والعهد القديم، فركزوا على العديد من المفردات ذات الصلة الوثيقة بالفضاء المسيحي ودوائره الاصطلاحية والمفهومية مثل: “البشارة”، “كرازة”، “أسقف” “أقنوم”… وغيرها عشرات مما لا تحيل على مرجعية واضحة لدى مُستشيري المُعجم من غير المسيحيين. كما يَظهر هذا التأثير في الدوافع والانتماءات التي حرّكت صناع المعاجم اليسوعيين ولا سيما إذا كانوا مرتبطين بعواصم أوروبية، لها مشاريع ثقافيّة، تسعى إلى بسطها في النسيج المجتمعي من خلال الكلمات والمفاهيم، مثل مشاريع التبشير وتأكيد أولوية القومية العربيّة على العامل الديني وحتى العَلمنَة الساعية إلى تحييد البُعد الإسلامي من الضاد وفصلها عن مراجعها الدينيّة، وهذا عين ما فعله الأب شيخو والمُعلم بطرس البستاني في معاجمهما، حيث أزيلت كلّ الإشارات إلى نصوص القرآن والحديث. وقد يكون لهذا التمشي دوافعه التربوية المفهومة، ولكنّه يحتاج إلى درس أعمق في العلاقات الخفيّة، غير المُصرح بها، بين هذه الانتماءات الدينية والعمل المعجمي حتى يدرس بعيدًا عن منطق التخوين. كما تظل صلة اللغة العربيّة بتراثها الديني، في صيغتَيْه المسيحية والإسلاميّة، حقلا معرفيًا لم يُحلل بعدُ بمعزل عن العواطِف والحساسيّات، حيث كانت الضاد وعاءً لعقائد العَرب، من الطائفتَيْن، وانفتحت للتعبير عن متنوِّع الأفكار في صلتها بالمقدّس. ولذلك ستظل الصناعة المعجميّة أداةً لتحاور الطوائف حول مُجاورة مرجعياتها وكلماتها.